بقلم: المستشار فـــوّاز ابراهيـــم نــزار عطيــة
كثير من عوام الناس ليسوا على دراية كافية بنصوص القانون، مما يجعلهم عرضة للمشاكل، وفي إطار علاج مشكلة الزيادة المضطردة في عدد القضايا المنظورة في مختلف درجات المحاكم في كل دول العالم على اختلاف أنواعها، أصدرت المجالس النيابة”البرلمانات” في مختلف دول العالم من خلال التشريعات منظومات قانونية، اتسم بعضها بقواعد آمرة تهدف إلى تحقيق اقصى درجات الأمن والأمان للمجتمع المحلي، ومن أجل ذلك شددت جميع التشريعات الوضعية في العقوبة عن الأفعال التي ترتكب عن سبق إصرار، إذ أن تلك النصوص القانونية تم صياغتها بصيغة التحريم القاطع لعدم المس بالأرواح والممتلكات العامة كانت أو الخاصة، من أجل ديمومة الإستقرارالأمني في المجتمعات، ولتحقيق النموالاقتصادي والتقدم بمختلف المجالات الحياتية، في سيبل خدمة الانسان.
قرار محكمة صلح القدس الإسرائيلية الذي صدرقبل يومين، بالسماح لبعض الفتية من المستوطنين من أجل ممارسة طقوس تلمودية بصوت عالٍ والانحناء على أرض باحات المسجد الأقصى، بالقول على حد زعم قاضي محكمة الصلح أنه: “أمر لا يمكن تجريمه أو اعتباره مخلا بالسّلم المدني”، دليل قطعي على أن القرار يحمل في طياته مجاملة رخيصة لقطعان المستوطنين على حساب قيم القانون والسِّلم الأهلي في القدس الشريف، وإمعان برسم سبق الإصرار في مخالفة قواعد دولية تتعلق باتفاقية جنيف لعام 1954، وعلى وجه التحديد المادة الأولى منها، التي اعتبرت أماكن العبادة تشكل تراثا ثقافيا وروحيا للشعوب.
إذ المتتبع لصياغة الاتفاقية سالفة الذكر، يجد أن القالب التشريعي الذي صقل المادة الأولى نابع عن تبصر وبصيرة، عندما تم استخدام مصطلح “الشعوب”، علما أن ذات المصطلح استخدم في بروتوكول الأول لإتفاقية جنيف لعام 1977 في المادة 53 منه، وكذلك في المادة 16 من البروتوكول الثاني الخاص بأماكن العبادة والممتلكات الثقافية والتاريخية والأعمال الفنية، التي اعتبرتها من التراث الثقافي والروحي للشعوب.
ومن هنا جدير بذكره أن من صاغ تلك الاتفاقية، كان على علم بواقع الحقيقة، في أن التراث وأماكن العبادة قد – تفيد التأكيد والجزم – تكون واقعا قائما قبل قيام بعض الدول، وواقعا يتجاوز حدود بلد معين، إذ مدينة القدس الشريف أحد الأمثلة على ذلك، فالمسجد الأقصى أقدم من دولة الاحتلال، وتراث المدينة يتجاوزحدودها المصطنعة، باعتبار تراث المدينة يرتبط في وجدان الأمتين العربية والإسلامية، التي تنتشر في مختلف بقاع الأرض، وتغطي ما يشكل نسبة 40% من سكان المعمورة.
أدركت حكومة الإحتلال النتائج الكارثية للقرارالمشؤوم الذي صدر قبل يومين، على صعيد السّلم الأهلي “المحلي” والدولي، مما دفع رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت، إلى التصريح بأن:” الحكومة ستطعن في قرار محكمة الصلح ، القاضي بالسماح للفتية بأداء صلوات تلمودية في المسجد الأقصى”.
وعلى صعيد آخر صرح وزير التعاون الإقليمي في حكومة الإحتلال بالقول:” إن قرار المحكمة انتهاك للوضع الراهن في المسجد الأقصى…”، ووصف القرار القضائي بأنه “غير مسؤول وخطير”، ثم أضاف ذلك الوزير أنه تم تقديم طلب التأجيل لتنفيذ القرار “لوقف إشعال النيران في المنطقة”.
إذا كانت حكومة الإحتلال بتصريحاتها السابقة والحالية العلنية والسرية، تؤكد على أنها لن تغييرمن الوضع القائم في المسجد القصى “الستاتيكو”، وإذا كانت تعلم أن في ذلك التغيير اشعال حرب، وأن تلك الحرب ستزيد من سفك الدماء للجانبين.
فلماذا لم تكن الأحداث السابقة خلال فترة الشهرين المنصرمين، غير كافية لها في أخذ الدروس والعبر، لما ساد من توترات وعنف في المدينة المقدسة، بسبب سياسات الحكومة الحالية التي خرقت الستاتيكو، إثرالسماح للمستوطنين بإقتحام ساحات المسجد الأقصى… والضرب المفرط للمحتجين… والانتهاك المتعمد بدخول أماكن العبادة سواء في المسجد القبلي أو مسجد قبة الصخرة بالبساطير…. وحرق السجاد نتيجة استخدام قنابل الغاز ومواد لا يسمح المقام بسردها…. وتكسير موروث ثقافي عمره يزيد عن ألف عام يتعلق بالشبابيك المزينة بإحتراف متناهي تزخرف جوانب المسجد القبلي للمسجد الأقصى… وتشتيت المعتكفين في صلواتهم وتخريب صفوة الخشوع والتواصل مع ربهم.
أليس في تلك الأفعال والتصرفات كانت سببا في ازدياد الاحتقان وردات الفعل؟ ألم تتعظ حكومة الإحتلال من حجم المواجهات بين شباب القدس وبين قواتها الأمنية المختلفة خلال مدة الشهرين الماضيين؟ وهل تعتقد هذه الحكومة أن القتل وبتر الأطراف والتشوهات والإعتقالات والتهديد بمزيد من الضرب بيد من حديد، سيرغم الناس على تمرير مخططات المستوطنين؟ أولم تتفكر حكومة الاحتلال في العواقب؟ وألم تتفكر حكومة بينت هشة الإئتلاف في نزع فتيل الحرب قبل فوات الأوان، حتى لو كان على حساب استمرار تلك الحكومة؟ أم أن بقاء الحكومة يستدعي المغامرة في أرواح الناس من الطرفين؟
فإذا كانت تلك التصريحات الصادرة عن حكومة بنيت، تؤكد على عدم تغيير الوضع الراهن، فلماذا لم يُتخذ اجراء تأديبي ضد قاض ذات المحكمة، الذي أصدر قرارا في شهر تشرين الأول من العام 2021، عندما سمح لليهود بالصلاة في باحات المسجد الأقصى لكن بصمت، الأمرالذي تجرأ قاضي الأمس وأصدر قرارا بعيدا كل البعد، عن مفهوم الحياد وبعيدا عن التبصر والبصيرة، وفيما إذا استمر تجاهل مسائلة مثل أولئك القضاة، لا استبعد أن يبتجرأ قاضٍ ثالث ورابع وعاشر في أن يصدروا قراراتٍ تقلب مفاهيم الوضع القائم رأسا على عقب.
من هنا أجد أن مسؤولية حكومة الاحتلال، لا تقتصر على محاسبة ذلك القاضي الذي خرج على قواعد النظام العام والمصلحة العامة للسكان، وانما يقتضي عزله من وظيفته لأنه ليس أمينا على أرواح بني جلدته، كما وانه ليس أمينا على أرواح المقدسيين، إذ مجاملة نفر من الفتية لتحقيق مكسب سياسي على حساب السلم المجتمعي، يشكل حنثا للقسم القانوني الذي أداه ذلك القاضي، وكل من يتجرأ في عدم تطبيق صحيح القانون والحفاظ على أرواح الناس وحماية ممتلكاتهم وموروثهم الديني والثقافي.