كتب: عبد المجيد سويلم
أن يتحوّل «الهروب» من قطاع غزّة إلى حُلمٍ للشباب يستحقُّ المغامرة بالحياة، والموت غرقاً في بحار الآخرين، أو العيش مُهرَّباً ومُطارَداً على حدود بلدان الآخرين، وأن يتحوّل مجرّد معرفة مصير المغامرة بالحياة، ومعرفة جُثث أو أشلاء هؤلاء الشبّان إلى «بلاء أخفّ من بلاء»، فهذا والله ألمٌ لا يُضاهيه ألم، وإحراج لكلّ شعبنا، ولكلّ واحدٍ وواحدة منّا، أفراداً وجماعات، أُمّهات وأخوات، أحزاباً وتنظيمات، وهو إيذان لنا كلّنا بأن الأمر قد تجاوز كلّ الحدود، وكلّ الخطوط، الخضراء والصفراء والحمراء معاً.
مُرٌّ هذا الذي وصلنا إليه!
هذا قهرٌ ليس لمثله قهر، وهو عارٌ على جباهنا إذا أردنا الصراحة، علينا كلّنا، وكلّنا يعني كلّنا.
الصّامِتون والمُجَعجِعون، الخائِفون والمُتردِّدون، المُنافقون والمرتعِشون، الرّافضون والقابِلون، المشكِّكون والمُحبِطون واليائِسون.
ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ وكيف لنا أن نقف أمام المرآة دون أن يتملّكنا الرعب، من هول ما اقترفت أيادينا بحقّ هؤلاء الشباب، وبحقّ الأجيال القادمة منهم.
هل تحوّلت مرارة العيش في القطاع إلى ما هو أشدّ مرارة من كلّ مُرّ؟
وهل أصبحَ الموت مغامرةً «أرحم» من عذاب انسداد الأفق، والقدرة على شقاء البقاء؟
يا لعارنا، ويا لجهلنا ومكابراتنا، ويا لتنافخاتنا بفخرٍ ليس لنا، وليس من صُنعِ أيدينا، لأنّ ما نصنعه بأيدينا ليس سوى هذا العار، وهذه المهانة، وهذا الذلّ الذي ينزف فشخرات فارغة، وينزّ قيحاً من جروحنا.
ويا لهذا الإنكار، وهذا التنكُّر الذي أوصلنا له تُجّار الأوطان، وجهابذة وأباطرة التخدير، وبيع الأوهام، والسلع الرخيصة في أسواق الوطنجية الكاذبة.
ويا لبؤس حالنا، وهول مأساتنا، نحن الذين لم نصدّق منذ البداية أنّ أصول اللعبة وقواعدها، كانت ستنتهي (أو ستبدأ)، لا فرق عند هذه النتيجة بالذات، وعند هذا الإنجاز الإسرائيلي بالضبط.
إذا صحّت الأرقام، وأغلب الظنّ أنّها صحيحة، بأنّ أعداد الشباب الذين هاجروا من القطاع، ويمكن القول ويصحّ بأنّهم قد «هُجِّرُوا» تجاوز الـ 300,000 شاب في العقدين الأخيرين، أو أقلّ قليلاً، فإنّ هذا يعني أننا نعمل بكلّ بساطة عند «سموتريتش» ليس بأكثر من وكلاء وموظّفين صغاراً وبالكاد، وأنّنا لسنا أكثر من مستخدمين من صغار الكّسَبَة وكبارهم، وبحيث تتضوّر الغالبية جُوعاً، وتنبعج بطون الأقلية القليلة من شدّة التخمة.
بعضنا يبحث عن كسرة خبز في الحاويات، وغالباً أُمّهات ومُعيلات، في حين أنّ علية من القوم تتنقل في «ربوع» القطاع «الرحبة والواسعة»! بأفخر أنواع المركبات، وتتنقل بين بلدان العالم، وخصوصاً بلدان «المحور المُمانع» بالطائرات بأعلى الدرجات، في الوقت الذي يشكّل الحصول على ثمن التنقُّل بالمواصلات العامّة في القطاع أحد أفخر أنواع الرفاهية!
ويصل أحياناً إلى ما يُشبه الأُمنيات! هذا ناهيكم عن القصور والفِلَل وفنادق الفخفخة والنّعِيم.
فماذا يريد قادة المشروع الصهيوني، قديمهم في العنصرية والإبادة الجماعية والترحيل، وجديدهم الآن أكثر من ذلك؟ ولماذا سيتحمّلون «وِزْرَ» وتبعات «الترانسفير» إذا ما تمكّنوا من المُضيّ قُدماً في هذا المسار، وإذا ما استطاعوا مضاعفة هذه الأرقام، ونقلوا حالة الهجرة والتهجير إلى الضفّة الغربية بعد أن ضمنوا أن هذه الحالة في القطاع قد «استقرّت» عند الزيادة المطلوبة، وعند حدود الخطّة الإسرائيلية، ومتطلّبات زيادة أعداد التهجير للسنوات القليلة القادمة؟
وطالما أنّهم وجدوا من يقوم نيابة عنهم بهذه المهمّة، وبحيث يكون دور القيادات الصهيونية متروكاً «لعوزة أكبر» في المستقبل القريب؟
والطّامةُ الكبرى هي أنّ القيادات من كلّ أنواعها، والتي لا تتورّع أبداً وبالمطلق عن «تلقيننا» الدروس والعبر، المدعمة بالوثائق والمعطيات والبيانات حول المسألة الديمغرافية في الصراع، وحول خيارات الدولة الواحدة «الحتمية» في حال «فشل» خيار «حلّ الدولتين»، وحول «المأزق» الصهيوني على هذا الصعيد، ولا يرفُّ لهذه القيادات، «يسارها» و»يمينها»، و»وسطها» و»شرقها» و»غربها» جفن وهي تقوم بهذا التلقين دون أن تنتبه ولا لمرّةٍ واحدة للذي نقوم به، بأيدينا وأنفسنا من «المساهمة» في تخليص إسرائيل من هذا المأزق على الأقلّ.
وأودّ بهذا الخصوص التنبيه إلى أنّ منظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية التي تنتشر في كلّ مكان، وتقوم بكلّ أشكال النشاطات، والندوات، والمنتديات، والمؤتمرات، وكلّ من يتخصّص حسب مصادر تمويله واحتياجاتها بالاستقصاءات والاستطلاعات والاستفتاءات لم تجرِ مؤتمراً واحداً، أو ندوةً وطنيةً واحدة، أو استطلاعاً واحداً كاملاً متكاملاً إلّا في حالاتٍ نادرة وجزئية حول هذا الخطر الكبير، وحول تبعاته الكارثية على كامل المشروع الوطني.
إليكم بعض الأسئلة والمعطيات التي لا يبحث بها أحد، ويكاد لا يهتمّ بها أحد من الذين يُفترض أن تكون على رأس أولويات أولوياتهم!
هل نعرف على وجه الدقّة مثلاً كم عدد الشباب الذين يُهاجرون من فلسطين كلّها سنوياً؟ وخصوصاً «الهجرة الصامتة» من الضفة الغربية والقدس؟
وهل نعرف الفئات العُمرية، والفئات الاجتماعية (الطبقية) التي ينتمي إليها الشباب المُهاجِر – المُهجَّر؟
هل حاول أحدٌ أن يدرس العلاقة بين العامل السياسي والعامل الاقتصادي، والثقافي في هذا التهجير.
هل ثمّة علاقة ما بين انعدام الحرّيات أو محدوديتها وبين الهجرة، ومغادرة البلاد؟
هل نعرف فيما إذا كان انسداد الأفق، وضيق وسائل العيش قد أصبح المُغذّي الأوّل، والسبب الأهمّ في ارتفاع المَيْل للهجرة عند فئات الشباب؟
هل ثمّة علاقة ما بين انسداد الأُفق السياسي وبين تشكُّل رأيٍ عام أكثري بين فئات الشباب للوصول إلى حالات الإحباط واليأس؟ وهل تراكم عند الشباب هذا اليأس بسبب «تجذُّر» حالة الانقسام بحيث أصبح الأُفق مسدوداً بالكامل بين سنديان الانقسام ومطرقة الإفقار المنظّم الذي تمارسه الطبقات الطُفَيْلية في المجتمع الفلسطيني، وتغذية الطبقة السياسية كلّها لهذا المسار كلّه؟ وماذا عن الدور الإسرائيلي؟
وهناك عشراتُ الأسئلة المماثلة التي تدخل في صميم هذا الجانب من مسألةِ الهِجرة – التهجير.
عندما نقول إنّ صمود الفلسطيني على أرضه هو قاعدة القدرة على الانتصار، وذلك بالنظر للصراع القائم على الأرض، وأهميّة صمود الإنسان الفلسطيني عليها، وعندما نعرف البُعد الديمغرافي في معادلة الصراع، وتكون النتيجة معاكسة تماماً لما هو مفترض، ولما هو بديهي في برامج القوى والأحزاب والمنظمات فإنّ الأمر ينطوي على ما هو أبعد من مجرّد التخلُّف والجهل بأبسط قواعد العمل السياسي التي تستجيب للاحتياجات والمتطلّبات، ويبدو الأمر هنا وكأنّه أحد أشكال التواطُؤ والخِداع.
عندما يُهاجر 300,000 شاب من القطاع فقط يُفترض أن تقوم الدنيا ولا تقعد، ويُفترض أن تتحوّل هذه المسألة إلى مُحاكمة سياسية، وإلى مُحاسبة شعبية للقائمين على الشأن الوطني العام.
على كلّ حال، يبدو أنّنا بحاجةٍ إلى عقد ندوة وطنية جادّة بمعزل عن القوى التي لم تُعِر مثل هذا الأمر انتباهاً على مدى سنواتٍ طويلة، ويبدو أنّ على كلّ من تعزُّ عليه القضية الوطنية أن يبدأ بإعداد نفسه لمرحلةٍ جديدة من العمل الجادّ والجديد والجدّي، أيضاً.