ينهال في الآونة الأخيرة المسؤولون والمستشارون الأمريكيون على السعودية، فخلال عام قام انطوني بلينكن بزيارة السعودية ثلاث مرات، الأولى قبل عام مرافقًا للرئيس بايدن، وقد فشلت فشلًا ذريعًا حيث زارها مرتين أخريين حتى يونيو/ حزيران 2023.
كما زار جاك ساليبان مستشار الامن القومي الأمريكي، السعودية أكثر من مرتين أعلن عنهما وفي كلّ مرّة كان يجتمع بولي العهد محمد بن سلمان، ويسود الإدارة الامريكية قلق كبير مما يجري من تحولات في السياسة الخارجية الإقليمية والدولية السعودية، بحيث فاجأ التحرّك باتجاه الصين وإيران الإدارة الامريكية، وجعلها خائبة وغير قادرة على فهم ما يحدث ويجري خليجيًا وعربيًا وفي داخل السعودية بالذات.
وتاريخيا فاجأت السعودية الدول الاستعمارية منذ مطلع القرن، ففي عام 1917 وبعد حكم تركي استعماري طويل الأمد، وقّع الشريف حسين تفاهمًا وصداقة مع بريطانيا العظمى، بحيث انتهى الحكم التركي هناك، وبدأت علاقة وثيقة مع بريطانيا العظمى حتى أواخر الثلاثينات التي كانت الحامية والمدافعة عن المملكة العربية السعودية، إلى أن فاجأ الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، بريطانيا عام 1945 عندما وقع اتفاقية كوينسي مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير/ شباط 1945 .وذلك على متن الطراد يو أس أس كوينسيCA-71) الراسي في البحيرة المُرّة الكبرى، حيث كان الرئيس فرانكلين روزفلت عائدًا من مؤتمر يالطا في عام 1945، حيث التقى قادة العالم لمناقشة مستقبل أوروبا ما بعد الحرب.
في طريق عودته، قرّر روزفلت أن يلتقي ببعض أهم زعماء الشرق الأوسط وأفريقيا، وعلى رأسهم الملك عبد العزيز بن سعود والملك فاروق ملك مصر، هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا.
ويعتبر هذا الاتفاق على متن حاملة الطائرات كوينسي تاريخيًا، حيث رسم خطوط العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية ووضعت أسس السياسة الامريكية في الشرق الأوسط، وكان الملك عبد العزيز قد رفض توطين اليهود آنذاك في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني الذي كان مطلبًا ملحًا لروزفلت، كي توافق الدول العربية على استقبال اليهود الذين طردوا من الدول الأوروبية، واتوا الى فلسطين حيث اقاموا الدولة الصهيونية بعد ثلاث سنوات من هذا الاجتماع على الرغم من رفض السعودية، لكن هاري ترومان الرئيس الذي اتى بعده دعم الدولة اليهود بقوة كي يأتوا إلى فلسطين ويقيموا دولتهم على حساب الشعب الفلسطيني.
وقد حقّق روزفلت آنذاك انجازًا كبيرًا على صعيد العلاقات بين الدولتين، اذ فاجأت السعودية بريطانيا وتخلت عن صداقتها الاستراتيجية مع بريطانيا واقتربت بعلاقاتها القوية مع الولايات المتحدة، حيث تم التوقيع على تزويد النفط السعودي إلى الولايات المتحدة وأن تقوم الولايات المتحدة بمساعدة السعودية بتزويدها تكنولوجيًا وبناء بنية تحتية.
أما الإنجاز الأكبر للولايات المتحدة التي حققته من التحالف مع السعودية، فقد كان موافقة السعودية على أن يباع النفط بالدولار الأمريكي، وقد عجّل ذلك في أن تصبح أميركا الدولة العظمى الأقوى في العالم حيث أصبح الدولار العملة المركزية في التداول عالميًا ولم تحتج الولايات المتحدة أن تثبت أنها تملك الكمية المناسبة من الذهب لدعم الدولار، فمخزون النفط السعودي يكفي لأن يكون الداعم لهذا الدولار الأمريكي والتي تتداوله جميع دول العالم.
ولا يعلم النظام السعودي أهميته الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، حيث أن إسرائيل تعتبر الصديقة الأهم للولايات المتحدة في أيامنا هذه، وتزود الولايات المتحدة التكنولوجيا والعتاد الحربي المتطور لإسرائيل بكمّيات أكثر من السعودية.
حيث زودت اميركا حتى الآن الى إسرائيل حوالي 39 طائرة F35 المتطورة بدون أي مقابل، ولم تزود أي طائرة منها الى السعودية على الرغم من أنها ، ستدفع أي مبلغ مقابل هذه الطائرات.
وتعتبر التغيّرات السياسة السعودية تغيرات استراتيجية اتجاه الولايات المتحدة، حيث رفض ولي العهد محمد بن سلمان في العام الماضي أن تزيد السعودية من انتاج النفط بهدف مقاومة روسيا في حربها في أوكرانيا، وبدأ في تقارب مفاجئ مع الصين وإيران.
أما بايدن وإدارته فما زالوا يلوحون بملف التطبيع مع إسرائيل ويطالبون السعودية بأن تقوم بالتطبيع مع إسرائيل.
وتحاول الإدارة الامريكية، خاصة في الزيارة الأخيرة لمستشار الامن القومي الأمريكي جاك ساليبان، ابتزاز السعودية لفرض خطوات التطبيع، حيث تقول السعودية انها لا تسمح لنفسها في ظل حكومة يمينة إسرائيلية متطرّفة تنتهك الحقوق الفلسطينية يوميًا، أن تقوم بعمليات تطبيع ، ويعتبر الموقف الأمريكي موقفًا غير مفهوم، ففي الوقت الذي يقاطعون نتنياهو ويهاجمونه ويهاجمون سياسته بكلّ ما يتعلق بالتغييرات القضائية، ولا يقومون بدعوته إلى واشنطن، يحاولون إعطاءه الامتيازات السعودية على حساب هذه المملكة، ويكفي فقط أن يقوم بالإعلان عن نيته إقامة مفاوضات مع الطرف الفلسطيني، أما على أرض الواقع فإنه ينفّذ سياسة أبارتهايد استيطاني وطرد جماعي من المنطقة C وهذا لا يهم الأمريكيين كثيرًا، بل إن ما يهمهم هو تغييرات قضائية تمسّ بمكانة الفرد اليهودي الإسرائيلي، كي يعيش في نظام فردي دكتاتوري، فأما هم يفصلون بين الشيئين موقفهم من الديمقراطية المندثرة لليهود في إسرائيل وموقفهم من الاحتلال وعدم إمكانية إيجاد أي حلول عملية للشعب الفلسطيني.
وفي نفس الوقت يطالب النظام السعودي الولايات المتحدة عدم ازدواجية المعايير، وأن يسلح المملكة تمامًا كما يتم تسليح إسرائيل، بحيث يريد هذا النظام تزويده بتكنولوجيًا واسلحة أمريكية متطورة جدًا، إضافة إلى تزويدها بتكنولوجيا نووية مدنية ذات إمكانيات تخصيب عالية، تمامًا كما هو الوضع في ايران، ويعتبر هذا الطلب بمثابة تحد لهذه الإدارة الضعيفة التي تخشى من إسرائيل أولًا ثم من الكونغرس، الذي سوف لن يوافق قبل الفترة الانتخابية الحالية، على مثل ذلك ومن هنا فان هذه الإدارة الامريكية الضعيفة التي لا تملك أي تأثير على نتنياهو وإسرائيل في التلويح بقضية التطبيع معها آملًا بايدن في أن يكون ذلك أحد إنجازاته في الانتخابات الوشيكة القادمة.
أما نتنياهو فإنه غير آبه بمثل هذه التنازلات، وأكثر ما يمكن اعطاؤه للسعودية والإدارة الامريكية، هو إجراء مفاوضات تستمر إلى أجل مسمى وبدون تهاود وبدون أن تحقّق أي انجاز، حيث تستمر الاقتحامات لمخيم جنين، نور شمس والفارعة، والقضاء على كلّ ما يمكن أن يُسمّى الحلم الفلسطيني.