“سُئل رئيس الحكومة ( بنيامين نتنياهو ) في جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن، عن إمكانية مواجهة وضع ينضمّ عرب إسرائيل للقتال في حالة نشوب معركة متعددة الساحات. أجاب نتنياهو بأن عشرة ألوية من الجيش تتدرب لمواجهة هذا الأمر. هذا بالطبع غير كافٍ حتى الآن، ولكن يجري تجهيزهم لهذا الأمر”. هذا ما ذكرته قناة “كان” صباح يوم الإثنين (9 حزيران/ يونيو الجاري).
مرّ هذا الخبر دون ردود في الإعلام، ربما بسبب كثرة التصريحات والمخططات العدوانية، وتحوّلها إلى أشبه بطقوس يمارسها نظام الأبارتهايد في إطار القمع السياسي لفلسطينيي 48. هذا النظام الذي ينشغل على مدار اللحظة، ويسابق الزمن في استحداث أساليب وطرق قمعية، في إطار إستراتيجية السيطرة والإخضاع لمليوني فلسطيني، هم أبناء وأحفاد من نجوا من التطهير العرقي عام 1948. أي أن المسألة لا تتعلق فقط بالمخاطر التي تحطيها من خارج فلسطين.
هذا المخطط ليس مجرد إضافة أخرى إلى ترسانة القمع، أو دعاية سياسية لنتنياهو في مواجهة المشاكسين المراهقين في حكومته الفاشية، بل هو جزءٌ من صيرورة متسارعة في العقلية الاستعمارية الصهيونية، تتأسس على نظرة عدوانية سافرة، بعد أن كانت هذه النظرة تُترجَم بعيدا عن أنظار الإعلام والعين الدولية لفترة طويلة. فقرار تجهيز عشرة ألوية خاصة بفلسطينيي الداخل، والذين هم بحسب القانون الإسرائيلي، مواطنون، يأتي متزامنا مع قرار حكومة نتنياهو إقامة “حرس قومي” في نيسان/ أبريل الماضي، كجهاز منعزل عن الشرطة، يترأسه رئيس حزب “عوتسما يهوديت”، إيتمار بن غفير .
وللتذكير، فإن قرار إقامة حرس قومي، يستند إلى قرار حكومة لبيد – بينيت – منصور عباس، التي استبدلتها حكومة نتنياهو الحالية.
يندرج هذا أيضا ضمن مستجدات آليات منظومة القمع الصهيونية، بإغراق المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل بالجريمة المنظمة، التي باتت ترتقي إلى خطر وجودي لهذا الجزء من شعبنا، خصوصًا وأن صراخ ممثلي هذا المجتمع، يقع على آذان صماء، إذ تستمر المذبحة الداخلية الموجهة من فوق.
فماذا يعكس كل هذا الحشد لآليات وتقنيات السيطرة والمراقبة؟ هل هو تجسيد للذروة الجديدة التي وصلت إليها الكراهية الاستعمارية لأصحاب الأرض الأصليين، والشعور بضرورة حسم الصراع فقط، أم أنه أيضا انعكاس لمستوى الفاعلية والقوة السياسية، والثقافية والتعليمية، التي راكمها هذا الجزء من مجتمعنا الفلسطيني، رغم ضعف ووهن وأداء ممثليه السياسيين… أم كليهما معا؟
كانت المفاجأة الكبرى الأولى لإسرائيل عام 1976، حين انتظم فلسطينيو 48، ولأول مرة منذ النكبة في إضراب وطني شامل، ومواجهة شعبية عارمة في عموم هذا الجزء من الوطن المحتل، وليمتدّ تأثير ذلك إلى بقية الوطن، في الضفة والقطاع. لم يمنع قتل المتظاهرين الفلسطينيين، “مواطني دولة إسرائيل” من البناء على تلك الهبة المجيدة، هبة يوم الأرض، فقد تناسلت بعدها، وبتأثير منها ومن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في الشتات، أطر وحركات وهيئات وطنية فاعلة، محلية وقطرية، لتنقل هذا الجزء من شعبنا إلى مرحلة الوعي بالجماعة القومية، واعتبارهم جزءا من شعب احتلّ، وطرد نصفه من الوطن.
والمفاجأة الثانية، كانت هبة القدس والأقصى، أو هبة أكتوبر 2000 التي كانت امتدادا للانتفاضة الثانية التي انطلقت من القدس، واتخذت الطابع الشعبي الصدامي.
وظلّت المفاجآت تتوالى وتضع نظام الأبارتهايد الاستعماري، أمام تحديات متجددة، فكلّما ظنت أنها تمكنت من إحكام السيطرة على الناس والموارد، تكتشف دون أن تعترف بذلك، بأنها كانت وفّرت وقودا إضافيا (متمثلا في قوانين عنصرية، وإجراءات قمعية، ومصادرات ونهب وحرمان، وارتكاب مجازر بحق شعبنا) لموجات غضب وهبات كفاحية.
وكانت المفاجأة الأحدث والأوسع والأشمل، هبة الوحدة والكرامة، هبة فلسطين من البحر والنهر، في أيار/ مايو 2021. وردًا على هذه الهبة، أقدم نظام الأبارتهايد على استحداث المزيد من إجراءات السيطرة والقمع والإخضاع، ليس داخل الخط الاخضر فحسب، بل في عموم فلسطين أيضا، وهذه المرة تحت شعار الحسم، وبطريقة سافرة وصارخة، وفق خطة أحد أقطاب الحكومة الفاشيين، بتسلئيل سموتريتش، المنشورة عام 2017.
يتفق معسكرا اليمين أساسًا، المتحاربان حول أمور داخلية في الكنيست والشوارع منذ بداية هذا العام، على أن فلسطينيي 48، خصوصًا فاعليتهم السياسية ومطالبتهم بالمساواة والعدالة، وتعاظم ارتباطهم بقضية فلسطين وبنضال شعبهم من أجل التحرر والعودة؛ يشكّلون خطرا على الطابع الإثني العرقي للدولة الاسرائيلية. وقد تجسَّد هذا الوفاق في مشاركة المعسكرين في سن “قانون القومية” عام 2018، مكرِّسا بشكل رسمي لمبدأ عنصري، بوجود مجموعة واحدة لها حقّ حصريّ في فلسطين، هو التجمع الاستيطاني الصهيوني.
كلاهما يعتبر المساواة الكاملة، سواءً داخل دولة إسرائيل، أو في فلسطين بين البحر والنهر، خطرا على الفوقية اليهودية. كما ليس لأي منهما استعداد للإقرار بدولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة في المنطقة المحتلة منذ عام 1967، أو حتى في جزء منها. أحدهما يريدها دولة عبارة عن مسخ على جزء من الضفة الغربية، ومن دون القدس، وسيطرة على الحدود أو الأجواء، ومنزوعة السلاح. والثاني، لا يريد أي شكل من الكيانية الفلسطينية، وجزء من هذا المعسكر، يتبنى ويعمل على تنفيذ ” خطة الحسم” والتي تواجه وستواجه بموجات مستمرة من المقاومة الفلسطينية، بأشكال مختلفة ومتنوعة.
يدرك أقطاب نظام الأبارتهايد تماما، أن فلسطينيي الداخل رغم تعاظم وعيهم وارتباطهم بالمصير الفلسطيني العام، اعتمدوا ويعتمدون النضال الشعبي والثقافي والسياسي والقانوني، انطلاقا من خصوصية واقعهم، ومن وعيهم بأن هذه الأشكال النضالية ناجعة، وقوية، وبخاصة إذا بذلوا جهدا أكبر في تنظيم أنفسهم، وتطوير آليات التحشيد الشعبي، وبناء مؤسساتهم التمثيلية والمهنية والثقافية والاقتصادية والبلدية. ولكن مؤسسة نظام الأبارتهايد أو ربما أوساط، فيها ترغب بأن تجد الحجة بارتكاب فظاعات تؤدي إلى تهجير، ولكنها لن تجد هذه الحجة. فرغم الوهن والضعف الذي يعتري ممثلي القوى السياسية العربية، ورغم تنامي الشعور بالارتباط بقضية فلسطين في أوساط طلائع الجيل الفلسطيني الجديد وشغفه بقضية العدالة، فإن الأشكال السياسية والشعبية المدنية ستظل سلاحا فعلا في مواجهة نظام الفصل العنصري الاستعماري، داخل إسرائيل.
إنه صراع شعب أصيل مفتوح مع نظام الاستعمار إلى أن يصبح عاجزا عن الحكم والتفوق، وممارسة الظلم. عن “عرب ٤٨”