في خاتمة دراسته الاستثنائية حول (صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب) كما اسماها يثبت دقة ما يؤشر لطموح الصهاينة في السيطرة على الأسرى عبر صياغة/صهر وعيهم، إذ ينقل عن يعقوب جنوت مدير مصلحة السجون آنذاك، ما يقوله لجدعون عزرا وزير الأمن الداخلي في العام 2006 وعلى مسمع الأسرى عندما زار سجن جلبوع: (إطمئن…عليك أن تكون واثقاً بأنني سأجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا).
ربما يكون جنوت أو ضباط الاستخبارات في السجون قد قرأوا ميشيل فوكو أو زيجمونت باومن وغيرهما من المنظرين الاجتماعيين، وتعرفوا على منهجيات السيطرة والهيمنة والتحكم بالأفراد والجماعات، ربما قرأوا وربما لا، ولكن الأكيد أن حسابات الصهاينة على مختلف مستويات الأجهزة المتحكمة بالقرار بشأن الأسرى الفلسطينيين قد جاءت النتائج بالاجمال عكس حساباتهم، فالأسرى لم ينشدوا التكفا (النشيد الصهيوني)، ولم يرفعوا علم الصهاينة، بل على العكس، منذ العام 2006 تصاعدت نضالاتهم الجماعية والفردية لمستويات قياسية.
كالعادة، الحياة لا تسير وفق مسطرة الأكاديميين الباحثين وتحليلات العاملين لدى أجهزة الاستخبارات، فما يعجزون عن إدراكه، وما تعجز عن قياسه (أدوات القياس المنهجية) المقدسة لديهم، هو الإرادة المتسلحة بوعي عقائدي وطني متجذر. ومع ذلك فالمصداقية تقتضي الاعتراف بتحقيقهم لنجاحات معينة وجدية، خاصة بتغذية ظاهرة التراجع في النضال الموحد في الحركة الأسيرة، ما أدى لتفكك بعض مفاصلها، عبر خلق وتطوير نظام الكابو، وهو ما تناوله دقة في دراسته ولم يهمله. ومع ذلك فنضالاتهم الجماعية والفردية متواصلة وتتعمق وتتزايد. ذلك هو المظهر الإيجابي الطاغي.
وليد دقة في صموده على مدار 37 عاماً في الأسر، ونشاطه الفكري، الرصين علمياً، الفاضح لسياسات مديرية السجون، وكتاباته الأدبية الهادفة الموجهة لليافعين، وتحديه لمرضه القاتل بصلابة وروح إنسانية تعانق إنسانية زوجته سناء وابنته ميلاد، شكّل نموذجاً لذاك الوعي العقائدي الوطني المتجذر. حتى زواجه في ألاسر وولادة ميلاد بتلك الطريقه فيه من الرمزية ما فيه. مَنْ راهن على أن الأسير سينشد (التكفا) ويرفع علم الصهاينة ها هو يرتبط برفيقة شبك الزيارة عبر سنوات طويلة وهو أسير، وينجب بنطفة مهربة في إصرار، شأن غيره، على عيش إنسانية الإنجاب ومداعبة الطفل رغم أنف الصهاينة ورغماً عن تقييدات الزيارة.
لا يحتاج الاسير المناضل لاثبات إنسانيته فتلك تحصيل حاصل، بل هو مَنْ يستحق أن يعيشها، السجان الصهيوني هو مَنْ يفتقد لإنسانيته مقابل إنسانية المناضل الأسير. وليد لم يؤكد إنسانيته فحسب بل أكد ان وعيه لم ينصهر، كما لم ينصهر وعي الآلاف من المناضلين الأسرى، بل فضح سياسة صهر الوعي التي تستهدف الأسرى.
في كل مراحل حياة وليد في الأسر لم يتوقف عن لعب دوره القيادي في الحركة الأسيرة، وقد تشرفت وعايشت دوره هذا في سجن عسقلان في العام 97، ومن موقع المناضل الواعي لدوره الوطني داخل الاسر، مفترقاً بسلوكه هذا عن حفنة ( قيادات) اختارت لعب دور الكابو. لم يتوقف وليد عن الانتاج المعرفي الرصين، عن الكتابة الأدبية لليافعين، عن بناء علاقات أخوية ورفاقية يشهد لها جموع مَنْ عايشه في الأسر.
ذلك هو الوعي العصيّ على الصهر، ذلكم، إن شئتم، هو ايضاَ الوعي حد الخرافة على حد التعبير الشعري لمظفر النواب. وليد في مواجهته لسياسة القتل اليومي، كما واجهها الشهداء ناصر أبو حميد وخضر عدنان ومن سبقهما، و (القتل اليومي) تعبير حقيقي لا مجازي، يؤكد أن طموحات السجان الصهيوني بصهر وعي الأسرى بالعموم أضغاث أحلام، وما وليد دقة إلا نموذجاً للوعي العصيّ على الصهر.