بقلم: د. احمد قطامش
مقدمة : يتجاوز الشعب الفلسطيني اليوم15 مليون نسمة وأكثر من نصفه بقليل في الوطن واقل من النصف في “دول الطوق” والشتات ومهما انفضت أوساط عن القوى المنظمة فهي لم تنفك حاسمة وقائدة . وبيسر يمكن ملاحظة اتساع قاعدتها في قطاع غزة وبيئتها العريضة في الضفة رغم تنامي العشائرية والشخصيات المدنية والمستقلة وارتفاع صوت المشككين بالقوى وخياراتها وقدرتها على الاستجابة للمتطلبات التحررية والتنموية والاجتماعية .
ولو أردنا استخدام احد المعايير كمرآة عاكسة ، فلن نجد أفضل من الانتخابات الطالبية في الجامعات التي يتمركز فيها نحو ربع مليون تشكل الإناث 61% فهذا القطاع هو الأكثر تمركزاٍ وتسييسا يليه في التمركز مدارس الثانوية التي يصل عدد طلبتها نحو ربع مليون أيضا .
وفيما تنحسر الطبقة الوسيطة أو الفئات الوسطى عالميا هي على العكس فلسطينيا، إذا اعتمدنا التعريف الأكثر شيوعا للطبقة الوسطى ( خريجو الجامعات ) وهم يتمأسسون في النقابات المهنية من معلمين ومهندسين ومحامين وقطاع طبي وإعلامي .. علاوة على انتشارهم في القطاع الخاص من شركات ومكاتب وحقول مختلفة ومنظمات غير حكومية تقلص تعداداها من 2700 إلى نحو 2000 يناهز العاملون فيها 45 الفاً.
أما القطاع الحكومي ( اذا جاز التعبير ) فهو يضم مالا يقل عن ربع مليون منهم 170 الفا في الوظيفة العمومية للسلطة الفلسطينية في الضفة وغزة بينهم 70 الفا أجهزة أمنية سواء عاملين أو متقاعدين ، بالإضافة لفصائل المقاومة في غزة (72 الفا ) السنوار وتوظيف إدارة غزة نحو 40 الفا فضلا عن أعداد من متفرغي التنظيمات.
والعمال الذين يبيعون قوة عملهم في الاقتصاد الفلسطيني او الاقتصاد الاستعماري هم القاعدة الاجتماعية الأوسع ويناهزون 450 الفا ( من أصل قوة عمل تصل 1.5 مليون بما فيهم العاطلون عن العمل ، والعاطلون في غزة هم ثلاثة أضعاف نسبتهم في الضفة بما هو أكثر من 60% و20% على التوالي معظمهم من النساء اللاتي تخرجن من الجامعات .
والعمال في أغلبيتهم الساحقة يكدحون في ورش بناء غير ثابتة ومشروعات صغيرة أما المشروعات الصناعية المتوسطة 50 عاملا فأكثر ومئة عامل فأكثر فهي بالعشرات وحسب.
ويمكن الاستطراد بالقول أن بعض الشركات الخدمية والجامعات والبنوك هي الأكثر توظيفا . إضافة لحفنة من المزارع الحديثة .
والحديث يغدو تراجيديا عند التطرق للزراعة إذ تراجعت نسبتها من 62% ما قبل 67الى نحو 5-7% من الدخل الوطني حاليا، وعدد العاملين فيها بالكاد يصل 10% من قوة العمل بما يشمل العمل الاثنيني ، أي الفلاحة وعمل أخر ( فالفلاح من يحوز ملكية زراعية كمصدر لرزقه وليس من يسكن القرية . فمن يقطن الأرياف اليوم أغلبيتهم من العمال والموظفين والتجار)..
وعندما يقال أن شجرة الزيتون هي القطاع الطليعي في الزراعة وعمرها قد يكون أعواما أو عشرات الأعوام ، وان الحجر هوالقطاع الطليعي في الصناعة ، حينها يسهل استنتاج أحوال الزراعة والصناعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67.
وعموما أن قوة العمل الفاعلة هي 20% تتولى الإنفاق على 100% من الشعب في الضفة وغزة بينما هي أكثر من 30% في الأردن ومصر على سبيل المثال.
ولا مهرب من التعريج السريع على الفلسطينيين الذين صمدوا في أراضيهم عام 48، فقوامهم قفز من 115 ألفا إلى مليون وثلاثة أرباع المليون ( الأرقام متفاوتة حسب المصدر ويضاف لهؤلاء 350 إلفا هم سكان القدس الشرقية. ومجمل الأرقام سالفة الذكر تقريبية ومتحركة ) واهم تجمعاتهم 75 الفاً في الناصرة و55 في أم الفحم و65 الفا في رهط والنقب و45 الفا في الطيرة واقل بقليل في شفاعمرو … الخ وإمعانا في سياسة فرّق تسد تشير المراجع الإسرائيلية أن 82% من المسلمين و9 % مسيحيين و9% دروز موحدين وفي مجموعهم يشكلون 20% من السكان في 48 فيما يملكون 3% من الأرض . ويوم الأرض 76 شكل انعطافا دراماتيكيا وكذا مشاركتهم في انتفاضة 2000 حيث ارتقى 13 شهيداً احدهم من غزة ومواجهتهم المثابرة لقانون المواطنة وقانون الدولة اليهودية وتصديهم لسياسة سرقة الأرض والتمييز العنصري استمراراً لمنهجية التطهير العرقي والترانسفير تنفيذاً ” لوثيقة الاستقلال ” بإقامة ” دولة يهودية ” .
ومن بين تجليات العنصرية أن نسبة الفقر بين الفلسطينيين تصل 45 % بينما هي 13% لدى اليهود، والبطالة 25% بين الفلسطينيين و6% بين اليهود فيما أجرة العامل العربي 70% عن أجرة العامل اليهودي واضطلاعه ب” العمل الأسود ” إجمالاً ، وسوى ذلك من تمظهرات تكمن جذورها في اقتلاع وتشريد الشعب الفلسطيني عامي 48 و67.
ولما للقدس من خصوصية ليس نافلا أفراد عدة فقرات فهي المرآة المقعرة للصراع ، وشخصياً إنني مقدسي وبيت عائلتي قائم كما أملاكها في الشطر الغربي حيث جرى اقتلاع 37 قرية عام النكبة 48. والوطن مقدس لدى كل الشعوب والانتماء الوطني إنما هو انتماء لخارطة الوطن وليس لمدينة دون سواها رغم خصوصيتها والحوض المقدس (144دونم) والإحاطة تطول ولكنني اختصرها بما يلي :
بعد احتلال الشطر الشرقي جرى توسيعه من 3% من مساحة الضفة إلى 17% أي من 6.5 كم2 إلى 70كم2 وتم تخصيص ثلث هذه المساحة للمستعمرات ( يمكن العودة للخرائط) ومساحة مشابهة للمناطق الخضراء ونسبة 10% للشوارع ولم يتبق سوى القليل للفلسطينيين المبعثرين على جزر محاطة باسيجة استعمارية .
من المعضلات الضاغطة على الفلسطينيين هي صعوبة الحصول على رخصة بناء ( تكلف الرخصه 40 ألف دولار وأكثر )فيما شقة متوسطة المساحة تكلف 300- 400 ألف دولار بما يدفع قسم من الأهالي ” للرحيل ” للقرى والتجمعات وراء الجدار. وتنشر التقارير ان الفقر يناهز 75%.
الوطنية الفلسطينية عميقة في القدس الشرقية وتعبر عن نفسها أولا بالصمود المجتمعي والمواجهة الشعبية الجماعية ومواجهة التحديات والاعتقالات بجلد …
عدد الاهلين في القدس الشرقية 350 ألفا واقل منهم مستعمرون وأكثر منهم في القدس الغربية . وهناك مخططات لا تهدأ وقرارات حكومية وجمعيات متعددة تنشط لتقليص العنصر الفلسطيني وتعظيم العنصر اليهودي بما يشبه ما فعله الفرنجة الذين اجتاحوا بيت المقدس قبل ألف عام حينذاك قاموا بذبح الفلسطيني وحرق مقدساته سواء كان مسلماً أو يهوديا أو مسيحيا إلى أن قامت جيوش العرب بقيادة صلاح الدين بتحريرها بعد أكثر من 90 عاما .
وعليه ، فأول ما يتطلع له الفلسطيني هو تدعيم صموده بتأمين مسكن لعائلته سيما الأزواج الشابة .
إضاءة سياسية سريعة
اندفعت المسيرة التحررية الفلسطينية في الوطن المحتل ما بعد التوسع الاستعماري عام 67 نحو البندقية وكادت تختفي النماذج الأخرى، واندفعت ثانية في أواخر السبعينات نحو التأطير الجماهيري والنقابي والإعلامي وكاد يختفي النموذج الأول ، وفي أواخر الثمانينات طغى النموذج الانتفاضي بطابعه الشعبي وما تخلله من مناشطات نخبوية وعنف شعبي ، فاستمر النهوض بضعة أعوام إلى أن انطفأ امام زحف النموذج التفاوضي ومسار مدريد – أوسلو .
انقسمت الساحة عموديا وبات لها أكثر من مشروع سياسي وأكثر من قيادة وأكثر من برنامج وغلب التباين التاكتيكي إلى أن اشتعلت مواجهات ( الجيشان الانتفاضي) في الأعوام الأولى من الألفية الجديدة ، وتوحدت الإرادة القاعدية ميدانيا وبعض النفوذ القيادي وبات لها الكلمة العليا على الانقسام السياسي . وفيما كانت المقاطعة صريحة لانتخابات المجلس التشريعي 1996 ( مجلس إداري ذاتي محدود حسبما جاء في مبادئ أوسلو وفي الممارسة انتهكت السلطات الاستعمارية كل شيء ) انغمست الخارطة السياسية الفلسطينية ( فيما عدا فصيلة) في انتخابات 2000 و2006 وما أعقب ذلك من انقسام السلطة إلى سلطتين والشعب إلى ” شعبين ” وكل محاولات رأب الصدع اصطدمت بحقيقة أن ثمة نهجين وقيادتين لكل منهما تحالفاته ومصادر تمويله ورهاناته… وهنا تقدمت أقلام وازنة باقتراحها ” الوحدة الميدانية ” وعدم إضاعة الجهد والوقت في محاولات فاشلة لتوحيد الساحة سياسيا ، بالإفادة من تجربة حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان ، وتجنيب الشعب صدمة وعود الوحدة التي تتبدد قبل ان يجف حبرها . ولكن الحنين للوحدة بقي سيد الموقف . انقسمت الساحة ولم يعد الانقسام بين يمين ويسار – ( فتح – والشعبية ) رغم وجوده وبين ادنى وأعلى حسب المنظور الماركسي رغم وجوده ، بل انقساما عموديا كتلة هنا وكتله وهناك . أما التناقض الأساس والرئيس ، أي التناقض الوطني التحرري فهو على حاله، ولكن الخلل أصاب العقل النظري فارتبكت السياسة. وهذا ليس جديداً، والامثله عديده في التاريخ العربي !
وأوسع من ذلك ألم ننتهك الحوار بين أ+ ب فمنعنا ولادة ج منذ مئات ومئات السنين فأصاب الديالكتيك الشلل، بما جعل غيرنا يتقدم علينا بعد أن كنا لبعض الوقت في طليعة الأمم .
وهذا ينسحب على مقولة ماركس ( السياسة ممارسة مجتمعية شاملة ) التي اختزلناها وامسكنا بأحد أركانها وقفزنا عن الأركان الأخرى. وهذا القفز والابتسار حصلا عندما غطست المسيرة في احد الأشكال ووضعت في الدروج الأشكال الأخرى وحينما غلّب الخارج على الداخل أو الداخل على الخارج ، فلم يضربا معا ، وكان الخلل في الأساس وفي المداميك الأولى، دون توفير اشتراطات الضرب بقبضتين دفعة واحدة . ولا يكفي القول لقد ساند جناح الآخر الداخل فالطائرة لا تطير إلا بجناحين. والشعب يواجه استعماراً بأنياب تكنولوجية ومسنود ” بالشيطان الأكبر ” .
ولا يساعد ابداً المبايعات وتعظيم الزعماء، وان كان يتوجب حماية الرموز كجزء من هوية الشعب ، أما الذي يساعد فهو فتح العقول والقلوب للنقد والمراجعة فثمة ( أخطاء وخطايا ) الحكيم بغية تصحيح المسار وتفادي مقولة اينشتاين ( أن الجنون هو ممارسة الشيء نفسه وتوقع نتائج مغايرة ) دون انتقاص ولو قيد شعرة من التضحيات المعمدة بالدماء والبسالة والمآثر على امتداد المسيرة ومحطاتها الدموية وما تعرضت له من محاولات احتواء وطمس وتصفية … يمكن العودة لكتاب العسكرية الفلسطينية لمازن عزالدين.
وكإستطرراد يتعيين التمييز من زعيم وقائد من منظور أكاديمي للسيكولوجية الاجتماعية ، فالزعيم تلتف حوله الجماهير أما القائد فهو يقودها ويقود طليعتها ، ويندر الجمع بينهما، والواقع الفلسطيني يحتاج للقائد الذي لا يكون في مرمى أدوات بطش الأعداء فهويتستهدفه دون رحمة ويدرك أن توافر قيادة استراتيجية وقاعدة اقتصادية ركنان في طريق الانتصار وحل الصراع جذريا دون جوهره الفرع اوتفريع الجوهر . واليوم الشعب مستباح على كل الصعد. وأية ديناميات تفتيتية للشعب والقضية والخارطة والحقوق هي ديناميات سلبية وأية جهود للملمة الساحة حتى على موقف واحد ، وهناك عشرات القواسم المشتركة هي جهود ايجابية فالمهارة في تجميع الطاقات لا شرذمتها.
يظن البعض أن أوضاعنا اليوم هي الأصعب : فأين كان الشعب الفلسطيني بعد 48 و67 وأين أصبح بون شاسع ، وكيف كانت أحواله بعد حرب 82 ومجازر صبرا وشاتيلا واليوم بون شاسع ، وفيما كانت فلسطين تواجه منفردة بات يتبناها اليوم جبهة جدية بإمكانات هائلة ( لقد تطرقت لعناصر القوة والضعف ) في مقالة منفصلة .
أن المسيرة الفلسطينية ملحمية وعرفت أكثر من تغريبة ومذابح عديدة ، ظناً من معسكر الأعداء أنهم بذلك يشطبون الشعب وينتزعون أمله بالحرية والتحرير فهل نجحوا ؟ لا قاطعة .
والبيت الداخلي الإسرائيلي هل عرف تصدعا غير معروفة نهاياته والهيمنة الأمريكية الحليف الأول للكنز الاستراتيجي هل تراجعت أم لا ؟ هذا هو الجوهري الذي يتوجب الإمساك به لاشظية هنا وخلل هناك .
وختاما
تمرد الطبقة الوسطة
هذا العنوان لكتاب وضعه ” بوريس كاجارلتسكي ” منذ سنوات ، وكأنه يستنبيء ويستشرف إضرابات واحتجاجات الطبقة الوسطى الفلسطينية من معلمين ومحامين ومهندسين وأطباء وصحفيين إضافة لنقابة جامعة بيرزيت .
” فقوة التوازن” هيكل ترفع صوتها النقابي تحت ضغط ارتفاع الأسعار والتضخم المالي، وهذا نرى نظيراً له في اوروبا.
وإشارتي لا تسعى للوْك الكلام عن العدالة والمحاججات، وإنما تذهب للزاوية الوطنية . فمجتمعنا ككل المجتمعات ليس محصناً وهو قابل للسير للأمام كما السير للوراء . وكيلا تتفاقم التناقضات بما تحمله من آثار على التماسك المجتمعي والصمود الوطني يتعين طرق باب الحوار الحقيقي بحثاً عن مخرج . أما التخندق فهو ينطوي على خطر انفلات التناقضات وتسميم الأجواء والمعنويات .
والحوار الحقيقي يقوم على الشفافية باستعراض الإمكانات دون التواء وعدم حجب الحقائق ومعادلة رابح رابح وتفادي الاستقواء والتعامل مع النقابات كشريك في إيجاد مخرج وحل .
أما السعي لكسر الاضرابات والاحتجاجات فهو وصفه للتأجيج لانه بيئه للنزعه التطرفية التي اثبت التاريخ في كل مكان إنها تفضي لنتائج عكسية .