وقائع وتداعيات زمن تسارع المتغيرات السياسية

بقلم: مروان اميل طوباسي

فجأة أصبحت اكذوبة انها “ضحية التاريخ الوحيدة” تسقط أمام العالم وبدأت دولة الأحتلال الاستعماري هي من تُحرج نفسها بقرارات الكنيست الأخيرة بشأن الانقلاب على النظام القضائي وتكريس ديكتاتورية المَلك الفاسد بتقويض ديمقراطيتهم اليهودية المزعومة، ومن خلال ابراز خرائط مملكة اليهود والتنكر لحقائق التاريخ والاَثار ووجود شعبنا وارتباطه بتاريخ الكنعانيين .
قوانين اتخذتها وشرعتها اغلبيتهم بالكنيست لإلغاء قرارات سابقة من فك الارتباط وقوانين تمهد لتنفيذ مشروع الحسم المبكر وضم المناطق المحتلة بالأمر الواقع كما فعلت سابقا بحق القدس والجولان وبتوسيع الاستيطان وما سيتبعها من قرارات لاحقة، إضافة إلى قرارات لمزيد من القهر بحق شعبنا وبحق الأسرى الذين نجحوا بوحدتهم من تحدي الجلاد قبل يومين .
هنالك هدف آخر يتحقق الآن من احراج دولة الاحتلال نفسها أمام الإدارة الأميركية على اثر توسع هوة الخلاف والصراع القائم بدولة الاحتلال والذي قد يتخذ شكلا دمويا، فقد اصبح النفور الأميركي من حكومة الأحتلال قائم اليوم اساساً على ما يدور بداخل المجتمع اليهودي من صراع ومن ما يسمى بانتهاك “القيم الديمقراطية المشتركة ” التي من المفترض أنها تشكل جزء من محددات العلاقة الأميركية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي “كواحة للديمقراطية الغربية” وفق ما شكل ذلك من مبرر خلال العقود الماضية. لكن هذا الأمر ينحصر بين اوساط محدودة وخاصة الشبابية منها داخل الحزب الديمقراطي وقوى يهودية معادية للصهيونية الدينية خاصة في ظل الجناح اليساري التقدمي داخل الحزب بقيادة عضو الكونغرس بيرني ساندرز ورفاقه الآخرين، رغم وجود تيار واسع وعلى رأسهم بايدن الذين ينتمون للفكر الصهيوني وفق اقوالهم وهم هؤلاء الذين يسعون لإنقاذ دولة الأحتلال من مأزق الأزمة العميقة التي بدأت تلازمها، بهدف حماية مصالح استراتيجيات السياسة الأميركية الخارجية والتي ما زالت دولة الأحتلال تشكل أداة متقدمة لها بالمنطقة بل وعلى مستوى العالم من جهة، ولحماية “الفكر الليبرالي الصهيوني” من جهة اخرى .
هذا الى جانب البعد الديني من محددات العلاقة الذي يرتبط بمفاهيم المسيحية الصهيونية والفكر الانجيلي المستحدث الذي يسود افراد الحزب الجمهوري واوساط من المحافظين داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وهو تيار قوي وواسع ما زال ملتزم تماما بحماية ودعم إسرائيل وحتى ما يتعلق بسياساتها بموضوع الاستيطان وإسرائيل الكبرى، حيث الاغلبية منهم تعتقد بأن عدد من الرؤساء الأميركيين هم هدية الله للعالم وإسرائيل ولا مانع لدى بعضهم من دعم اليمين الصهيوني الديني أيضا التي تؤمن بخزعبلات حرب “هارماغادون” .
وتأتي اليوم الإدارة الأميركية التي فشلت بعد احتكارها عملية السلام المفترضة في تحقيق اي تقدم بهذا المسار، لتحاول من جديد تبني ورعاية لقاءات تهدف وفق ادعائها بتحريك مسار سياسي جديد يجلب الأمن والاستقرار بالمنطقة.
فلسطينياً قلنا سابقا وبملئ الفم السياسي أننا لن نقبل بعملية سياسية تحتكرها الولايات المتحدة دون رعاية دولية، كما وحددنا نحن أسس هذا الطريق اعتمادا على الشرعية الدولية وقراراتها ومبادئ القانون الدولي كمرجعية لها .
ان ذلك حمل شكلا من التحدي السياسي رغم انه كان في زمن غير هذا الزمن حين كانت الولايات المتحدة ما زالت هيمنتها تشكل أساس النظام الدولي احادي القطب وتتحكم إلى حد بعيد برؤية المجتمع الدولي معتبرة نفسها حكومة العالم وفق ما وصفها به الرئيس المكسيكي الذي شكل مع رؤساء القارة اللاتينية تحديا للهيمنة الأمريكية مؤخرا .
أما الآن وقد تغيرت الظروف الدولية بل والاقليمية نحو بدايات نظام دولي متعدد وتحالفات اقليمية جديدة، مما أضعف احادية دور اللاعب الأميركي ، فلماذا يتاح للادارة الاميركية من جانب بعض دول الاقليم لعودة احتكار رعايتها الان واعادة اخراج صفقة القرن المرفوضة بثوب جديد في زمن تتفاقم به الأزمة داخل المجتمع الاسرائيلي بشكل غير مسبوق، وفي زمن اصبحت تعبر به بعض دول التطبيع عن خجلها من العلاقة القائمة مع حكومة الأحتلال هذه .
وبغض النظر عن الاعتراضات اللفظية الان والامتعاض من سياسات حكومة نتنياهو ، فان ركائز التحرك الاميركي حتى هذه اللحظة ما زالت بفرض الفيتو على مشاريع قرارات ادانة اسرائيل ، ولا تأتي على ذكر أسس المطالب والحقوق الوطنية السياسية والتاريخية لشعبنا في انهاء الاحتلال الأستيطاني بكل أشكاله كسبيل وحيد للسلام ، ولا على وقف سياسات الابرتهايد كجريمة دولية بحق الإنسان ولا على ذكر القانون الدولي والقرارات الأممية ذات الصلة بما فيها حق اللاجئين، كما لا تشير إلى وضع القدس سوى بما تعلق منها بالحفاظ على الوضع التاريخي القائم بخصوص مقدساتها. فالقدس على قدسيتها هي مكانة سياسية وتاريخية وهوية تراثية لنا أيضا لا يجب ان يقتصر النظر لها من البعد الديني فقط على اهميته لنا .
ان الهدف الأميركي والاسرائيلي الذي يتمثل بمفاصل الدولة العميقة فيهما، هو اطباق حصار سياسي على رؤية الرئيس “أبو مازن” ومنظمة التحرير التي أعلنت سابقا في مجلس الأمن الدولي والمتعلقة بالمؤتمر الدولي للسلام ومرجعياته والنتائج التي يتوجب الوصول اليها من حق تقرير المصير والاستقلال الوطني كمعبر وحيد للأمن والاستقرار والسلام المنشود .
لا يمكن إخفاء نواياهم ايضا بمحاولة اضعاف دور منظمة التحرير كاداة كفاحية من أجل التحرر الوطني وكبيت جامع للكل الفلسطيني بما تشكله من ارث نضالي، في وقت يفتحون قنوات الحوار والتفاوض من خلال وسطاء بهدف استدامة الوضع القائم في غزة اعتمادا على ما تم من تسهيل ظروف الانقلاب هنالك.
ان ما يحصل رغم الصراع العمودي والافقي الداخلي في إسرائيل هو استمرار لسياسات الاحتلال الاجرامية ونمو الفاشية التي لم تولد فجأة بين ثنايا مجتمعهم والتي لا ينفرد بها فقط الثلاثي نتنياهو ، بن غفير وسموتريتش، فقد انتجتها بيئة صهيونية منذ الأباء المؤسسين للفكر الصهيوني وسياسات قهر شعب آخر هو صاحب الأرض وتسهيل أمر نموها من خلال قوى الاستعمار، دون أن يكون أحدا من مجتمعهم بريء من ذلك سوى المعادين منهم للفكر الصهيوني .
ان الظروف الناشئة الآن داخل دولة الأحتلال اصبحت تعكس شرخا عميقا بين اطراف الخلاف بالمجتمع اليهودي ووصولها ربما الى نقطة اللاعودة ، حتى وصل الأمر بمعهد الأمن القومي أن يطلق تحذيرا استراتيجيا قبل أيام يتعلق بمكانة إسرائيل الداخلية والدولية الآن التي تتغير وتهتز .
فالادارة الأميركية ليست بعيدة عما يجري وهي في قلب الحدث كما كان دورها دائما ترغب بدعم الليبرالية الصهيونية بعد اتساع الفجوة بين “المَلك نتنياهو” وبايدن من جهة وتمرد إعداد من الجاليات اليهودية على حكومة الأحتلال القائمة، كما يتمرد جيشهم الآن من جهة اخرى، الأمر الذي يؤثر على مصالحهم.
ان هذا الدور يأتي اليوم في الوقت الذي تتسم فيه السياسة الأميركية بالمنطقة بنوع من الهزائم وانحسار حجم تأثيرها خاصة أمام التمدد الصيني الذي ابتدأ مع القمة العربية الصينية ولاحقا من خلال الوساطة بالمصالحة السعودية الإيرانية، وما تبع ذلك على المستوى الدولي من نتائج القمة الصينية الروسية، ونمو الدور الروسي في اسيا وإفريقيا بعد إعفاء الأفارقة من ديونهم المترتبة على الروس، وبروز التكتلات الاقتصادية الجديدة. كذلك من تداعيات حرب الولايات المتحدة بالوكالة باوكرانيا واسقاطاتها على المجتمعات الاوروبية، فيما نشاهده من مظاهرات مليونية لشعوبها هذه الأيام ضد حكوماتهم المرتبطة بالسياسات الأميركية والليبرالية المتوحشة الاقتصادية والاجتماعية، كما وبدء اعاقة بعض الدول منهم لتوافقات بالاتحاد الأوروبي تعيق العقوبات على الروس .
وفي دولة الأحتلال الإسرائيلي المظاهرات اليومية تقود الى اختلال التوازن بمنابت الفكر الصهيوني والى تعميق أزمة النظام القائم على الاحتلال والأستيطان والابرتهايد وتزيد من النفور الدولي ضد إسرائيل، وهنالك بعض الاصوات في الكيان التي اصبحت تربط ما بين العنصرية ضد شعبنا واستمرار الأحتلال والديمقراطية لديهم لتتجاوز مفهوم “الديمقراطية اليهودية” .
لذلك فان علينا أن نوسع قاعدة تحالفاتنا وعملنا المشترك مع قوى هذه الشعوب واحزابها التقدمية لوضع مزيد من الإحراج على حكوماتهم والعمل مع أبناء شعبنا بالداخل والقوى الحية اليهودية المعادية للصهيونية والمكافحة من أجل الحقوق القومية والمساواة وضد كل أشكال القهر والتمييز العنصري والفوقية اليهودية ، ومن أجل حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني واستقلاله الوطني، فقوى ومكونات الأحتلال الأستعماري لن تجلب لنا الا مزيدا منه .

Exit mobile version