المسيحيون في الشرق

 ‏بقلم: الدكتور إياد البرغوثي

من المعروف أن البدايات المسيحية (الكنيسة الأولى) ظهرت في فلسطين وجوارها أي فيما يعرف الآن ‏بالشرق. في فترة لاحقة تبنت الامبراطورية الرومانية المسيحية، وفي العام 1054 حدث الانقسام في ‏الكنيسة وتشكلت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. هناك بالطبع اختلافات ‏لاهوتية بين الكنيستين لكن العلاقات بين الغرب والشرق خاصة منذ ظهور الامبريالية انعكست على ‏العلاقات بين الكنيستين‎. ‎
بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين ما زال البطريرك اليوناني هو رأس الكنيسة وذلك منذ أن قام ‏السلطان العثماني بتنحية البطريرك العربي وتعيين بطريركا يونانيا مكانه لاعتبارات تتعلق بمحاولة كسب ‏السلطان الأرثوذكس الى جانبه في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا‎.‎
يشكل المسيحيون الأرثوذكس النسبة الأكبر من مسيحيي الشرق وشهدوا بالمجمل، اضافة الى بقية مسيحيي ‏المنطقة من اتباع الكنائس المختلفة، حالة من التعايش والانسجام مع كل المكونات الأخرى من شعوب ‏المنطقة، بمن فيهم “الأكثرية” المسلمة، ورغم ما شهدته حالة التعايش تلك من تراجعات وانتكاسات في ‏بعض الأحيان لأسباب لم تكن الحالة الايمانية منها في أي يوم من الأيام، الا أنها بقيت محدودة قياسا ‏بالصراعات التي قامت على أسس دينية في أوروبا بين المسيحيين أنفسهم.‏
كان المسيحيون مثلهم مثل بقية المكونات الأخرى في الشرق ضحايا الغرب في المنطقة منذ ما سمي ‏بالحروب الصليبية ثم في فترات الاستعمار الأوروبي والمشروع الاستعماري الصهيوني، في نفس الوقت ‏كانت مساهمتهم في حركات التحرر الوطني وفي النهضة القومية لكثير من بلدان الشرق استثنائية، وكانوا ‏رواد التنوير والتحديث، وبرزوا في الدفاع عن اللغة العربية وعن الثقافة العربية بالمجمل. وفوق كل ذلك ‏كانوا وما زالوا مدافعين عنيدين عن القضية الفلسطينية.‏
معاناة المسيحيين ‏
شهدت العقود الأخيرة تصدعات في العلاقات البينية للمكونات المختلفة لمجتمعات المنطقة، ضمن ذلك ‏ازدادت معاناة المسيحيين (وغيرهم) من جراء تنامي الاصولية الدينية والقومية، وبروز الهويات الطائفية، ‏وظهور الحركات التكفيرية العنيفة (داعش ومثيلاتها).‏
كما تصاعد العدوان الصهيوني الامبريالي على المنطقة حيث كان المسيحيون ايضا ضمن ضحايا ذلك ‏العدوان… حدث ذلك منذ نكبة 1948 وحرب حزيران 1967 على فلسطين والبلدان العربية المجاورة ثم ‏العدوان الاسرائيلي المتكرر على لبنان، ثم حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق وافغانستان، ‏واستمر ذلك العدوان في خضم الربيع العربي حيث استمر العدوان على العراق وضربت ليبيا وسوريا.‏
جسدت هذه الاعتداءات سياسة التفكيك والفوضى الخلاقة التي تمثل استراتيجية الولايات المتحدة والغرب ‏الامبريالي والمشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة، وكانت ضحاياها شعوب المنطقة بكافة مكوناتها بمن ‏فيهم المسيحيين. هذه الاعتداءات بكل اشكالها وفاعليها قتلت الملايين من شعوب المنطقة بكافة مكوناتها، ‏وشردت الملايين، وخلقت من المآسي اشكالا لا توصف.‏

ردود الفعل
مع تنامي الاصولية، والجرائم التي ارتكبها التكفيرين ضد كل المكونات، اخذت تلك المكونات بالذهاب أكثر ‏باتجاه الاكثريات والاقليات. ينطبق ذلك على المسيحيين ايضا. رغم أن مفهوم الأكثرية والاقلية لا يسري ‏في الظروف الطبيعية الا على الاتجاهات السياسية، أما كمجموعات مجتمعية فهي مكونات بغض النظر عن ‏نسبتها عدديا في المجتمع.‏
أخطر ما في التحول من مكون الى طائفة، خاصة إذا كانت “اقلية” هو “الإصابة” بسيكولوجيا الاقلية، ‏حيث الحساسية المفرطة لأي حدث مهما بدا طبيعيا، وهو التوتر الدائم والذعر والوقوف على مسافة إشكال ‏واحد من الهروب (الهجرة)” أو الحرب الأهلية، وحيث النفاق سواء “للأكثرية” أو للحكومة طمعا في ‏الحماية أو في بعض الامتيازات. هذا لم يكن ليحدث للمسيحيين في المنطقة عندما كانوا مكونا وقبل أن ‏يتحولوا بشكل أو بآخر الى “اقلية”.‏
قبل التحول الى “اقلية”، كانت النخبة “المسيحية” نخبة الأمة، وكان مكانها الطبيعي طليعة الاحزاب ‏القومية واليسارية وحركات التحرر. أما بعد ذلك فقد تراجعت لتصبح “نخبة” للطائفة وشكلت احزابا طائفية ‏انحصرت أهدافها في أمور الطائفة وتراجعت عن المشاركة في الاحزاب القومية والوطنية لتكون في حزب ‏الحكومة أو قريبة منه.‏
من ناحيتها ارتاحت الحكومات لهذا الوضع، واتاحت لكثير من أبناء المسيحيين العمل في أجهزة الدولة، ‏وهي ترى أنها بذلك تبعدهم عن أحزاب المعارضة من ناحية، وتقدم أوراق اعتمادها للغرب (المسيحي) من ‏الناحية الأخرى، وهذا أمر حيوي بالنسبة لها. ويجري الترويج لذلك بحجة أن استخدام المسيحيين في ‏الوزارات التي لها احتكاكات بالخارج (السياحة مثلا) هو أكثر جدوى في الوصول الى العقل الغربي.‏
المشكلة انه في حالة الطائفة، إذا كانت معاملة حكومة “الأكثرية” للأقلية سيئة فإن ذلك يسيء “للأقلية” ‏بالطبع، وإذا بالغت الحكومة في تعاملها الايجابي لها فهي مسيئة في بعض جوانبها ايضا، فهي بذلك تثير ‏ضغينة الطائفة الأكبر “الأغلبية”، وفي مواقف معينة تصبح “الأقلية” ضحية للمعارضة لأنها تحسبها على ‏النظام الذي تعاديه.‏
الخروج من المأزق
عند التحول من مكون الى طائفة، يصعب حل المشاكل التي تترتب على ذلك، سواء في العلاقة مع الدولة ‏أو مع “الأكثرية” بالذهاب الطبيعي نحو المواطنة المتساوية أمام الدولة والقضاء، لأن ذلك يعتبر في عرف ‏الطوائف تخليا عن “امتيازاتها” وعن كونها طائفة من الأساس، وربما “تخليا” عن الدين نفسه ودعوة ‏للدولة “العلمانية”.‏
وفي هذه الحالة، حالة الطائفة وليس المكون، يصح الحديث عن “التسامح” كقيمة لا بد من وجودها لكي ‏تتعايش الطوائف المختلفة بالحد المطلوب من الأمن والاحترام لأنه لا يمكن القبول بالبقاء في حالة صراع ‏دائم بين الطوائف.‏
في دول الطوائف، ومن أجل الحفاظ على الحد الأدنى من معقولية العيش ينبغي اعتماد القاعدة الذهبية التي ‏وردت في كتابنا “الأسلمة والسياسة في الاراضي الفلسطينية المحتلة” منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، والتي ‏تقول “ان من حق الأقلية دائما أن تبدي تخوفها ومن واجب الأكثرية تبديد تلك المخاوف”.‏
لكن مجتمع الطوائف لا يشكل حماية حقيقية للناس، بل هو التهديد الجدي والدائم لهم. فكل طائفة ترى ‏المشكلة في الطائفة الأخرى، ويصبح طبيعيا أن تلجأ هذه الطائفة لأي كان في الداخل أو الخارج لكي ‏تستعين بها للوقوف في وجه الطوائف الأخرى، والطامة الكبرى عندما ترى “الأقلية” طريقها للنجاة في ‏الوقوف ضد قضايا الوطن والأمة على اعتبار أن تلك القضايا تخص “الأكثرية” الظالمة، كأن يرى البعض ‏أن القضية الفلسطينية هي قضية المسلمين وحدهم. كما تخطيء “الأكثرية” إذا اعتمدت القمع وارادت ‏التفرد “بامتيازاتها”.‏
بإمكان المكون المجتمعي إدراك أن مشروع التفكيك الامبريالي- الصهيوني هو الذي يسعى لتحويله الى ‏طائفة.. فذلك من متطلبات الهيمنة التي يسعى لها الغرب الامبريالي والذي يتطلب مشروعا شرقيا مضادا ‏من أجل الوحدة والتحرر. في هذه الحالة فقط يتحرر المسيحيون ويتحرر المسلمون وكل المكونات في هذا ‏الشرق ويدركون مصيرهم المشترك، ووقوفهم الى جانب قضايا أمتهم وفي مقدمتها فلسطين هي ضمان لعدم ‏ذهابهم الى الطوائف….. وما أدراك ما الطوائف؟

Exit mobile version