كتب: عبد المجيد سويلم
في لحظات تاريخية تتحوّل الحيرة إلى قيود، ويصبح التردُّد في الإقدام أخطر من كل إحجام.
“العالم” الذي نعيشه اليوم مُنقسِمٌ على نفسه بصورة لا تُحتمل، ولا يمكن أن تَحتمِل المزيد من هذا الانقسام.
وعندما نصف العالم بأنه مُنقسِمٌ، وعندما يكون هذا الانقسام قد وصل إلى لحظات مصيرية كالتي يعيشها عالم اليوم، فإن الأمر لا يتعلق بالخلاف والاختلاف، فقد كان هذا الخلاف والاختلاف قائماً على مدى مسار تاريخ العلاقات وتوازناتها بين الدول والشعوب، وبين المعسكرات والتحالفات والتكتّلات، الأمر يتعلق بالانقلابات.
هناك لحظات في تاريخ هذا العالم، وخصوصاً الحديث منه تكون حاسمة ومفصلية، بحيث يتغيّر “وجه” هذا التاريخ، وليس صدفةً أبداً أن “تغيير وجه التاريخ” تحوّل إلى قول مأثور في وصف هذه اللحظات.
تغيّر وجه التاريخ فعلاً على مدى قرون وقرون، وكان هذا التغيير يحدث في لحظات من التحولات التاريخية بأشكالٍ لا تُعدّ ولا تُحصى من الثورات الاجتماعية والسياسية، وأخرى علمية وتكنولوجية، وثالثة بالصراعات ما بين الأحلاف والتكتّلات والاصطفافات.
في لحظاتٍ أخرى “تلطّخ” وجه التاريخ جرّاء انقلابات وتحوّلات وحروب استعمارية ولصوصية، وفي لحظاتٍ أخرى “أخفق” التاريخ في “قراءة” نفسه، وفشل في إدراك الأبعاد التي انطوت على تلك اللحظات والمراحل.
ولكي أدخل في صُلب الموضوع دون أن أُقحِمَ القارئ بالمزيد من هذا “التقديم” فإن الحروب، بصرف النظر عن طابعها، وعن عدالتها وعن أحقّية من بادر إليها، ومن عاش ويلاتها قد غيّرت “وجه” التاريخ بصورةٍ كاملة، وبشكلٍ انعطافي بسبب الحرب العالمية الأولى، والثانية وبسبب الحرب العالمية الثالثة التي هي “الحرب الباردة”، وسيتغير وجه هذا التاريخ في الآونة القريبة القادمة بسبب أن “الانتصار” الغربي في الحرب العالمية الثالثة قد وصل إلى نهايته المحتومة.
ثلاثة عقودٍ كاملة من التحكّم الغربي برقاب الأمم والشعوب تشارف على الاحتضار، ولم تقبل روسيا، ولا الصين، ولا دول كثيرة، ستطول على القائمة، بتكريس أو تأبيد ذلك “الانتصار” الغربي وهي تململت للتعبير عن هذا “الرفض” في العقد الأخير، وهي الآن تنتفض على تلك النتائج التي انتهت إليها “الحرب الباردة”، ولم تعد قادرة على “الانتظار” أكثر ما انتظرت، وساعة الحسم تقترب بسرعة قياسية.
نحن في الواقع نعيش اليوم المقدمات التاريخية للحرب العالمية الرابعة، أو الثالثة وفق مقاييس أُخرى.
عندما نعود الآن “لقراءة” سقوط الاتحاد السوفياتي نجد أن هذا السقوط لا يختلف عن الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتآكل من داخلها، ويحيط بها “الأعداء” من كل جانب، وخسرت الحرب وخسر معها كل الحلفاء من حولها، وعندما نعود إلى الحرب العالمية الثانية فإن النازية قد خسرت الحرب وسقطت، وسقط معها كل حلفائها، وتعايش المنتصرون حتى تسعينيات القرن الماضي إلى أن انتصر الغرب في “الحرب الباردة”.
تعايشت روسيا والصين ودول العالم مع “الانتصار” والتحكُّم الغربي إلى أن فقدت الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية القدرة على استمرار هذا التحكُّم وتحولت إلى وحشٍ كاسر لا يختلف من حيث جوهر الدور عن النازية الإجرامية.
وكلما كانت الرأسمالية في نسختها المتوحشة تشعر بقرب النهاية، وتستشعر الخطر على مكانتها كانت تزداد عدوانية وإجراماً وفتكاً بالبلدان التي لا تخضع لهيمنتها الكاملة، وبالشعوب التي تتوق للحرية والانعتاق والتحرر من قبضتهم.
وصلت الأمور إلى حدود “الهروب” الأميركي ــ والتي هي رأس الأفعى في الحالة الرأسمالية المتوحشة ــ من مناطق حسّاسة من هذا العالم، لكي توجه كل “طاقتها”، والتي هي طاقة عدوانية ليس إلّا، لمواجهة روسيا والصين “أملاً” بالانتصار عليهما، أو تأخير وتأجيل سقوط الهيمنة الأميركية والغربية على مُقدّرات العالم.
ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا فإن روسيا والصين، وبعض الدول، والكثير الكثير من الشعوب أصبحت على جدول أعمال العدوانية الغربية، وتحولت كل هذه البلدان والشعوب إلى أهداف مباشرة للابتزاز، والتآمر، والانقلابات، وتهديد كل الوجود القومي لهذه البلدان وهذه الشعوب.
بلدان وشعوب كبيرة بدأت “تنسحب” من “بلاط الحاكم الأميركي”، وأخذت تصطف إلى حيث توجد مصالحها القومية، وإلى حيث تستطيع أن تحافظ على هذه المصالح برويّة وهدوء وحكمة أحياناً، وبأقلّ من ذلك في أحيانٍ أخرى.
ويكفي بهذا الصدد أن نشير إلى أن الانضمام إلى الحلف الجديد الممثل في (شنغهاي) أصبح يحتاج “الانتظار” على الدور، لدول كبيرة مثل مصر والبرازيل وجنوب إفريقيا والسعودية، هذا ناهيكم عن أن دولاً بعينها في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية هي “بحكم” المنضمة، ومسألة انخراطها، وليس دخولها فقط هي مسألة وقت، ووقت قصير للغاية.
يضع الغرب كل ثقله خلف أوكرانيا “أملاً” في إعاقة هذا الاتجاه، ووقف هذا “التدهور”، وهذا هو التفسير الوحيد لهذا “الجنون” الغربي، وهذا هو المنطق الحقيقي الذي يشرح لكل “أولي الألباب” ما يجري في هذا العالم في هذه اللحظات المصيرية.
فلسطين كقضية، وليس كحيز جغرافي بكل المعايير هي قضية تحرر رقم واحد في عالم اليوم، وهي بهذا المعنى توازي من حيث الأهمية والمكانة ما لا تستطيع الحصول عليه كبريات الدول الإقليمية، وهي بهذا المعنى، أيضاً، نقطة توازن حسّاسة في عالم يموج في صراع البقاء، وصراع الوجود، والصراع بين الحق والعدالة من جهة، والظلم والعدوان من جهة أخرى.
الغرب أدار ظهره لفلسطين، وسقط خيار “السلام” الذي وعدنا به الغرب، وسقطت أوروبا سقوطاً مدويّاً في امتحان الجدارة التي تتعلق بالحدّ الأدنى في مجال العدل والإنصاف.
وكانت أوروبا قد سقطت قبل الحرب في أوكرانيا، فما بالكم عن سقطاتها القادمة بعد أن تورّطت حتى أُذنيها في صراع الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية الجديدة المتوحّشة.
آن الأوان لفلسطين من وحي مصالح الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية والإنسانية أن تدرك أين يسير عالم اليوم قبل أن يصبح الوقت متأخّراً، وقبل أن تسبقنا العاصفة.
ليس المطلوب أن نتطيّر أو نقفز في الهواء، وليس المطلوب أن تأخذنا “العزّة بالإثم”، وليس القصد أن نغادر أي مساحة من مساحات العمل السياسي والدبلوماسي، وليس الهدف أن نعتبر بأن ظهيراً لنا أصبح جاهزاً وينتظر منّا المبادرة فقط، ليس أبداً هذا هو المطلوب، لكن لا مناص بعد اليوم من قياس خطواتنا بدقة، وأن نحسب حساباتنا بكل حكمة وبأعلى درجات البصيرة.
ما قاله الرئيس أبو مازن في خطاب الجمعية العامة مهم، وهو يعبّر عمّا يختلج في نفوس الفلسطينيين، لكن ما لم يقله الرئيس بعد هو ما يتمنّاه كل فلسطيني وينتظره بفارغ الصبر، خصوصاً وأن داخل خطاب الرئيس مقدّمات مهمّة للمستقبل!