فلسطين في مشروع الشرق

 بقلم: الدكتور إياد البرغوثي

لا يمكن ارجاع الصراع البشري عبر التاريخ لسبب واحد، فهو بالتأكيد ظاهرة معقدة يدخل فيها الأمن ‏والاقتصاد والسياسة والاجتماع والفكر وربما السيكولوجيا ايضا. وعند النظر الى التاريخ الحديث ‏والمعاصر للعالم نرى أن الغالب عليه هو الصراع بكل اشكاله‎.‎
لقد فتح الصراع الدائر في اوكرانيا حاليا العيون على أن ما عاشته البشرية في التاريخ المنظور، وما تعيشه ‏الآن، ليس اكثر من حروب ساخنة احيانا وباردة احيانا اخرى. على ما يبدو أن العالم لم يشهد لا الآن ولا في ‏اي وقت مضى سلاما حقيقيا، وما هذا السلام الذي يتم الحديث عنه في فترات كثيرة الندرة في التاريخ ‏المعروف، إلا الاسم الآخر لما يطلق عليه الحرب الباردة هذه الأيام‎.‎
تتميز الصراعات الكبرى عبر التاريخ، بما فيها تلك الدائرة الآن، بأنها صراعات بين امبراطوريات ‏ضخمة، بين مشاريع كبرى تمثل مصالح عليا لأصحابها، وتستند أساسا الى الجيواستراتيجيا الخاصة ‏باصحاب تلك المشاريع، مع ضرورة عدم استثناء العوامل الأخرى المؤثرة في الاصطفافات الموجودة‎.‎
بالعادة، وكما تمثل الحرب في اوكرانيا، تتقاتل المشاريع الحية(روسيا والغرب) على اراضي المشاريع ‏الغائبة(الشرق الاسلامي وافريقيا وآسيا السوفياتية) الغنية بالثروات وبأدوات الانتصار، وهذا ما تظهره ‏الدبلوماسية النشطة للمتحاربين في بلدان هذه المناطق، والمطلوب في نهاية الأمر من شعوب تلك المناطق ‏ودولها ليس اكثر من الاصطفاف بشكل او بآخر مع هذا‎ ‎الطرف او ذاك من المتحاربين‎.‎
وعندما اتحدث عن المشاريع الغائبة في أفريقيا وآسيا السوفياتية والشرق الاسلامي الذي تم تحديده جغرافيا ‏في كتابي “تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية ” بالمنطقة الواقعة بين المغرب الأقصى ‏وافغانستان فإني لا اضعها جميعا في نفس المرتبة، إذ ان كلا من أفريقيا وآسيا السوفياتية تعي اهمية ‏وحدتها، وهي تبذل جهودا وإن كانت ما زالت متواضعة لتقريب دولها وشعوبها، رغم تدخلات الاقطاب ‏الكبرى (المشاريع الكبرى ) المعرقلة والمعيقة لذلك‎.‎
أما ما يجري بالنسبة لمشروع الشرق الاسلامي الذي يهمنا هنا، فهو مشروع غائب أو ما زال غائبا كما هو ‏عليه الوضع في افريقيا وآسيا السوفياتية، لكنه يتميز “بغياب” شبه تام للحامل الثقافي له، بعد أن وصلت ‏فئة كبيرة من المثقفين وخاصة العرب الذين يفترض أن يدافعوا عن ذلك المشروع، الى عدم الاقتناع به ‏حيث انتقلوا من مؤمنين بامكانية الوحدة وداعين لها الى الحديث عن صعوبتها، ومن ثم، وهو الأخطر، الى ‏عدم الإيمان بها والذهاب بها الى وضع يشبه المزحة لا أكثر، وتسخيف اي حديث عن تقارب شعوب ‏المنطقة باعتباره كلاما بعيدا عن الواقع، وبعيدا عن المنطق ايضا‎.‎
إذا للغرب مشروعه، وهو في ما يتعلق بالشرق، يتمثل في تغييب مشروعه أو ابقائه غائبا والهيمنة عليه ‏والاستيلاء على ثرواته، واضعافه وتمزيقه من اجل ضمان الاستمرار في ذلك. ومن أجل ذلك استخدم ‏الغرب ويستخدم كل نفوذه وادواته وقواه الخشنة والناعمة وفي مقدمتها اسرائيل والمشروع الصهيوني‎.‎
لقد كان احتلال معظم فلسطين عام 1948 وإنشاء دولة اسرائيل، الخطوة الأساس في المشروع الغربي ‏لتغييب اي مشروع شرقي الى الأبد، وذلك بوضع حد للتواصل الجغرافي بين جناحي الاقليم. من البديهي ‏أن عدم التواصل الجغرافي يخلق عقبات أمام كل أنواع التواصل الأخرى، الجيواستراتيجة والاقتصادية ‏والثقافية والاجتماعية والنفسية وغيرها‎.‎
أفقد ضياع فلسطين الشرق أية امكانية لتجسيد مشروعه بشكل طبيعي، وجعل انشاء اسرائيل مكان فلسطين ‏الإمكانية متوفرة أمام الغرب لالحاق بلدان الشرق في مشاريع أخرى غير مشروعها هي، بمعنى أن وجود ‏اسرائيل كرأس حربة للمشروع الصهيوني والامبريالي الغربي وضع الأساس لصهينة المنطقة‎.‎
يوضح كتاب “تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية ” الموقع المركزي للقضية الفلسطينية في ‏علاقتها باستمرار تغييب المشروع الشرقي أو إعادة احيائه، ويقارن ذلك بالاهمية المركزية للمشروع ‏الصهيوني وإسرائيل في انجاح المشروع الامبريالي الغربي في المنطقة، نظرا لدور الصهيونية المركزي ‏في الابقاء على الهيمنة الغربية على الشرق‎.‎
فلسطين بموقعها الاستراتيجي الخاص والمميز تعتبر قضية القضايا في المنطقة، فبدون فلسطين محررة، أو ‏على الأقل فلسطين كحركة تحرر ومقاومة، لا يبنى مشروع شرقي. هناك أجزاء محتلة من الوطن العربي، ‏وهي بالتأكيد عزيزة على أهلها وعلى الأمة بأجمعها، لكن احتلالها لا يملك ولا يمكن أن يملك نفس الأهمية ‏الاستراتيجية لمشروع الشرق، كما هو حال فلسطين‎.‎
ان أبرز ما ينقص فلسطين هو الوعي الاستراتيجي بها، والتفكير بها استراتيجيا من حيث علاقتها بمشروع ‏الشرق، وهذا يعني ايضا الفهم الاستراتيجي لإسرائيل والمشروع الصهيوني ودورهما في المشروع الغربي. ‏من البديهي أن فلسطين هي وطن الفلسطينيين الذي تحتله اسرائيل، لكنها في الفكر الاستراتيجي المتعلق ‏بالمشاريع والمشاريع المضادة في المنطقة، هي الجغرافيا التي تصل بين جناحي الشرق في شمال افريقيا ‏وغرب آسيا، أما اسرائيل فهي الجغرافيا التي تفصل بين هذين الجناحين. فلسطين تصل وإسرائيل تفصل، ‏هكذا هو واقع الحال، وهكذا يجب أن تفهم الأمور، ويبنى بمقتضاها‎.‎
هذا الفهم الجيواستراتيجي لفلسطين وإسرائيل، ينبغي أن يكون منطلقا للتعامل مع القضية الفلسطينية، ‏وللمواقف منها، وهو الأساس الذي يبنى عليه الموقف من اسرائيل، ومن العلاقة معها، وكذلك الموقف من ‏الغرب ومن كل الفاعلين في العالم‎.‎
من المؤكد أن الغرب والصهيونية يفهمان اسرائيل (وفلسطين ) استراتيجيا وتتصرفان على هذا الأساس. ‏يبدو هذا من تصريحات القادة الغربيين والصهاينة، ويبدو كذلك من افعالهم وسياساتهم. فبن غوريون الذي ‏يقول بأن غاية اسرائيل “هي التحقيق الكامل للصهيونية وليس السلام “، و نتنياهو الذي قال أن السلام ‏الاقتصادي الذي يسعى اليه هو “تجسيد للهيمنة الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين والعرب” يعبران عن ‏الفكر الاستراتيجي الذي يتبناه الغرب في المنطقة‎.‎
أما الجانب الفلسطيني والعربي فلا شيء يوحي لا من الأقوال ولا من الأفعال والسياسات، أن لديهم أي ‏وعي استراتيجي بفلسطين وإسرائيل، ولذلك لا تغدو سياساتهم اكثر من قصف “عشوائي” وفي كل ‏الاتجاهات، وهذا ما يفسر أن فلسطين (والشرق ) قتلت بنيران “صديقة” الى جانب نيران الأعداء بالطبع‎.‎
من الحيوي جدا بالنسبة للفلسطينيين وللعرب وللشرقيين اجمالا فهم اسرائيل كمشروع أو كرأس حربة ‏لمشروع. هذا يعني ايضا فهم فلسطين كمشروع (كقضية) تهم الفلسطينيين والعرب والشرقيين اضافة الى ‏أنصار العدل في العالم. ان فهم كل من فلسطين وإسرائيل كرأسين لمشروعين متضادين، اضافة الى فهم ‏أسس العلاقات التي تربط المشاريع المتضادة، من حيث كونها متضادة ومن حيث كون الصراع بينهما لا ‏يمكن أن يكون إلا تناحريا، يقودنا الى تقييم جدي وحقيقي لكل السياسات والمواقف التي انتهجتها دول ‏وشعوب المنطقة حيال فلسطين وقضيتها‎.‎
شكلت كامب ديفيد، وقبل ذلك الموقف من قرار تقسيم فلسطين، وبعد ذلك انطلاق عملية “التسوية” في ‏مدريد وبعدها اوسلو، في بعض جوانبها، علامات على عدم فهم تام للمشروع الصهيوني في المنطقة ودولته ‏اسرائيل، وبالتالي عدم فهم لجوهر القضية الفلسطينية. فهذه الأحداث جميعا اعتبرت أن هناك خلافا بين ‏الفلسطينيين والاسرائيليين، أو العرب والاسرائيليين، وأن حل هذا الخلاف يكون بقسمة “العرب عربين” ‏وانتهى الأمر‎.‎
هذا الموقف اعتبر اسرائيل دولة طبيعية مثل أية دولة، غير شرعية نعم، ولكنها ليست مشروعا أو ممثلا ‏لمشروع، وليست رأس حربة لذلك المشروع، وليست تكريسا لهيمنة على المنطقة برمتها. واعتبر فلسطين ‏كيانا تم تغييبه ولا بد من طريقة لاعادة احيائه، وليست قضية تحرر وطني لها وللمنطقة، وطليعة لمشروع ‏للمنطقة في مواجهة مشروع متغول عليها‎.‎
غياب الفكر الاستراتيجي لدى الفلسطينيين والعرب غيب مشروعهم الذاتي، وجعل كل خطواتهم عشوائية، ‏و”اهداهم” لاعدائهم، واوصلهم لاوسلو، ومن ثم التطبيع “الغرامي” بين بعض الدول العربية وإسرائيل، ‏و”التفنن” في ذلك التطبيع بالوصول الى “ادلجته” ممثلا بالابراهيمية والدعوة الى انشاء حلف أمني “ناتو” ‏يضم دولا عربية اساسية “بقيادة” اسرائيل‎.‎
في اوسلو ربط الفلسطينيون قولا وفعلا مصيرهم بكل تفاصيله، وكذلك سيادتهم وقرارهم “المستقل” الذي ‏ناضلوا طويلا من أجل ترسيخه، باسرائيل. وشكلت خطوتهم تلك تمهيدا سياسيا ونفسيا لدول عربية وغير ‏عربية للتطبيع العلني مع إسرائيل، ولتخلي تلك الدول عن القضية الفلسطينية بكل وضوح، ومن ثم تطوير ‏ذلك “التخلي” الى “التموضع ” في المعسكر المضاد‎.‎
في البداية اعتبر “الفلسطينيون” اوسلو مغامرة ورهانا وقفزة في المجهول، في حين كانت بالنسبة ‏للاسرائيليين مسألة في غاية الوضوح، تهدف الى خلق حالة من التبعية للفلسطينيين ومنطلقا نحو العرب ‏والمسلمين. لكن الفلسطينيين استمروا في تلك “القفزة” حتى عندما وصلت ذروة “المعلوم “، فارتباطهم ‏باسرائيل يتعمق يوما بعد يوم، واتخذ التنسيق بينهم وبين الاسرائيليين شكلا دراميا تجلى بكل وضوح عندما ‏اجتمعت قيادة الطرفين لتنسيق مواقفهما قبيل زيارة الرئيس بايدن للمنطقة. بالعادة تنتظر الأطراف ‏‏”الوسيط” ليساعدها في تقريب مواقفها، أما أن تنسق الأطراف مواقفها في “مواجهة” الوسيط فهذا يستحق ‏براءة اختراع جديدة في موضوع الدبلوماسية‎.‎
في غياب الفكر الاستراتيجي تضيع الأهداف، وتستبدل باشياء اخرى، رمزية بالعادة. في الحالة الفلسطينية ‏بعد اوسلو رفعت الوسائل لدرجة الأهداف، وجرى تقديسها بشكل او بآخر، وغابت السياسة الحقيقية وتشوه ‏النظام السياسي… كل ذلك بانتظار الدولة “المستحيلة” التي يعرف الفلسطينيون جيدا أن من قدمهم للعالم ‏ليست هذه الدولة بل القضية بكل معانيها‎.‎
أدى “الارتقاء” باوسلو الى الابراهيمية التي شكلت نقلة “نوعية” في فهم اسرائيل من قبل “شركائها” الجدد ‏من العرب. فقد زال الجانب النفسي الذي كان يقتضي أن لا يكون التعامل مع إسرائيل علنيا، وجرى ‏الاصطفاف العلني الى جانب اسرائيل وبقيادتها في المنطقة ضد “اعدائها” المشتركين. وابتدأ عصر جديد ‏من “صهينة” المنطقة، وما الحديث عن ادخال اسرائيل في الاقليم الا عكس للحقيقة تماما، فالذي يجري ما ‏هو إلا ادخال للاقليم في اسرائيل ومشروعها الصهيوني‎.‎
ان الحديث عن الديانة الابراهيمية التي تجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين، ما هي إلا محاولة لاضفاء ‏القداسة على التطبيع مع اسرائيل، والانضواء تحت لوائها، واستقواء بها على الآخرين. أما امريكا التي ‏ركزت اهتمامها الاستراتيجي على صراعها مع الصين وروسيا، فقد سلمت قيادة المنطقة الى اسرائيل التي ‏تعمل بمثابة عصا موسى “ابراهيميا” لتأكل كل “افاعي” الآخرين ومقدراتهم‎.‎

Exit mobile version