تغول المشروع الأميركي الإسرائيلي.. فمتى نغضب!

 بقلم: فتحي كليب

في نقاش اوضاعنا واحوالنا، تتكرر في الدردشات اليومية عبارات غاية في الاهمية لا يتوقف الكثيرون امامها رغم انها ذات دلالات من نمط: لكل زمن رجاله، ولكل مرحلة ناسها. تتغير الظروف نعم، لكن الاوطان وقيمها لا يمكن ان تتغير. لكل زمان رجاله بمعنى فرسانه وابطاله.. شهداءه ومعتقليه وجرحاه.. ولكن تاريخ الامم يقول لنا ايضا ان لكل زمن اقزامه وحثالته.. ولكل مرحلة عبيدها ورقيقها وقنَّها.
لا يختلف اثنان على ان الواقع الفلسطيني، سواء على مستوى العلاقات الداخلية او الوضعين الاقليمي والدولي اللذين لا يميلان لصالح القضية الوطنية، هو واقع صعب جدا وعلى مختلف المستويات، لكن هذا لا يبرر للبعض تفشي حالات يأس واحباط في صفوفهم، خاصة اولئك الذين تعبوا النضال واستسلموا لمشيئة العدو واقروا بأن الزمن هو زمن اسرائيلي، لا بل ان هذه الظروف الصعبة، بالنسبة لمن يمتلك حدا ادنى من المعرفة بتفاصيل قضيتنا وتاريخها تؤكد ان العدو غير قادر، ولن يكون قادرا، على فرض ارادته. هذه الظروف يجب ان تشكل حافزا لمواصلة النضال وفق المبادئ الثورية التي لا تعترف سوى بمنطق الاعتماد على الذات وهو وحده قادر على تغيير الظروف وموازين القوى.
عندما حمل الشعب الفلسطيني بندقية الثائر، لم تكن الطريق وردية، بل على العكس ربما كانت قضيتنا في بعض عناوينها اسوأ مما نعيش اليوم.. فاسرائيل، كدولة كانت وحدها على طاولة المجتمع الدولي ومؤسساته المختلفة، وفلسطين غابت من على الاجندة الدولية، بما فيها اجندة الامم المتحدة التي لم تعد تذكر فلسطين باسمها بل باعتبارها “قضية الشرق الاوسط” فقط، ولم يكن من مشروع سياسي سوى مشروع الحركة الصهيونية. لكن حين امتشق الشعب الفلسطيني لسلاحه وسال الدم الفلسطيني طاهرا مقدسا ونظيفا يروي الارض الفلسطينية، عادت فلسطين لتتبوأ موقعها ومكانتها الحقيقية ولتعود الامم المتحدة وتصدر اهم قراراتها الخاصة بفلسطين منذ منتصف السبعينيات، سواء تلك القرارات المتعلقة بالارض الفلسطينية باعتبارها اراضي محتلة او بشعب هذه الارض والسلطة السياسية التي تمثله (منظمة التحرير الفلسطينية)، واهمها القرار رقم 3236 بتاريخ 22 تشرين الثاني 1974‏ الذي اعترفت فيه الامم المتحدة للشعب الفلسطيني بـ “الحق في تقرير مصيره دون تدخل خارجي، الحق في الاستقلال والسيادة الوطنيين، حق الفلسطينيين، غير القابل للتصرف، في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، حق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل، ودعوة الأمين العام لإجراء اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية في كل الشؤون المتعلقة بقضية فلسطين”.
في المرحلة الحالية وحين وصل دونالد ترامب الى الرئاسة اعلن “حربا عالمية” شملت دولا في كل القارات، لدرجة ان حلفاء الولايات المتحدة لم يسلموا من تداعيات سياسته. هناك دولا صمدت وقاومت ورفضت الانصياع للمشيئة الاميركية وما زالت في قلب المعركة تدافع عن نفسها وعن مصالحها ومصالح شعوبها. وفي المقابل هناك دولا اختارت الاستسلام والهزيمة اعتقادا منها انها بذلك تبعد عنها التدخلات الاجنبية الاستعمارية، لتتحول الى مجرد ادوات بيد المشروع الغربي الاستعماري يحركها وفق مصالحه الاقليمية والدولية، ولتفقد بذلك كل عناوين السيادة والكرامة الوطنية والقومية.. والملاحظ ان الولايات المتحدة لم تحقق اي اختراق سياسي او اقتصادي مع الدول التي رفضت سياسة الهيمنة الاميركية، وان المناطق الوحيدة التي تمكنت فيها من تحقيق الكثير من اهداف مشروعها هي المنطقة العربية حيث اتسعت عمليات التطبيع وسرقة الثروات العربية ودفع بعض الانظمة للدخول في تحالفات سياسية وامنية وعسكرية تحت شعارات توفير الحماية لها.
وعلى المستوى الفلسطيني، ورغم ان القيادة الرسمية اعلنت رفضها لصفقة القرن الاميركية الاسرائيلية، الا انها لم تتخذ من الاجراءات الميدانية اية خطوات تصادمية معها، خاصة وان هذه الصفقة طرحت للتطبيق العملي وليس للحوار بشأنها، وهي كانت تتحرك بتطبيقات مباشرة في الميدان، خاصة بما يتعلق بقضايا الارض والدولة والقدس ومخططات الضم والاستيطان والاعتقالات والسعي لتمرير ما سمي السلام الاقتصادي، رغم وجود قرارات من اعلى سلطة فلسطينية (المجلسان الوطني والمركزي) وهي قرارات تشكل استراتيجية مقاومة فلسطينية بامكانها فرض معادلات وموازين قوى جديدة .
وفوق هذا كله هناك التأييد والتعاطف الدولي الذي لم يتم استثماره بشكل جيد لجهة التراكم بالنقاط بانجازات سياسية تسحب البساط، ولو بشكل تدريجي، من تحت اقدام المشروع الاميركي الاسرائيلي، بل ان الحقيقة التي باتت مجربة ومؤكدة ان المواقف الدولية والاقليمية، بغض النظر عن مدى توازنها، الا انها بالنهاية تستجيب للموقف الفلسطيني حين يكون قويا وصامدا ويعكس ارادة شعبية.. فهذا ما حدث في محطتين هامتين: المحطة الاولى هي الموقف من القدس، ففي 6 كانون الاول عام 2017، اعلنت الإدارة الاميركية اعترافها بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، وفي الشهر نفسة طرح الموضوع امام الجمعية العامة للامم المتحدة لابداء رأيها، وقد حذر الرئيس الأميركي حينها من أن بلاده قد تقطع المساعدات المالية عن الدول التي ستصوت لدعم مشروع القرار.، فيما قالت مندوبته في المنظمة الدولية نيكي هايلي إن ترامب كلفها “بتقييد أسماء” الدول التي ستصوت لصالح مشروع القرار. وبالرغم من ذلك، جاءت نتيجة التصويت ايجابية لصالح فلسطين برفض 128 دولة للقرار الاميركي.
المحطة الثانية في الموقف من وكالة الغوث الدولية (الاونروا) عام 2019، حين لم تنصاع للارادة الاميركية ولم تتخذ من الاجراءات ما ينسجم مع مطالبها ومطالب اسرائيل، خاصة بما يتعلق بتعريف اللاجئ وبتغيير استراتيجيات “الاونروا” وبالمس بالقرار 194.. وايضا اعاد مستشارو ترامب تحذير دول العالم من التصويت لصالح التجديد لوكالة الغوث ووضع المساعدات الاقتصادية الاميركية كسلاح واداة ابتزاز لاجبار دول العالم على التصويت بعدم التجديد.. لكن رغم ذلك جاءت نتيجة التصويت مرتفعة، حيث صوتت 170 دولة لصالح قرار بتجديد التفويض للاونروا لعام 2023، ولم يصوت ضد القرار سوى عضوين فقط من اصل 193 دولة وهما الولايات المتحدة وإسرائيل.
امام كل هذا، فالحالة الفلسطينية مطالبة بتطوير ادائها والنضال بما ينسجم مع تطور المشروع الصهيوني اولا والمتغيرات على المستويين الاقليمي والدولي ثانيا.. ولا نأتي بجديد حين نعترف بأن القضية الفلسطينية تمر بأدق واصعب لحظاتها، غير ان هذا امر طبيعي مقارنة بما شهدته حركات التحرر الوطني العالمية، التي دائما ما كانت تتأثر بمجموعة من المعطيات المحلية والدولية وقد تفرض عليها مواقف تتناقض مع اهدافها الاستراتيجية المعلنة.. لذلك لا نستطيع الحديث عن انجازات وانتصارات الا وفق جزئيات بسيطة تراكم بخط نضالي تصاعدي، وهنا تأتي مسؤولية الاتجاهات الثورية داخل الحركة التحررية الفلسطينية التي يقع على عاتقها مسؤولية حماية الانجازات.. لأن الابداع الثوري لا يتأتى الا في اللحظات الصعبة، والوطنيون الحقيقيون المخلصون لوطنهم وقضيتهم لا يُعرَف معدنهم الوطني الاصيل الا في الازمات.
الاساطير والخرافات الصهيونية لا مكان لها فوق ارض فلسطين لأنها مزاعم لا تستند الى حيثية لا قانونية ولا تاريخية، بينما حيثيتنا نحن الفلسطينيين اصحاب هذه الارض هي دمنا وجذورنا المتواصلة والمتصلة والتي تمتد لآلاف السنين.. ولعل هذا هو السر في غضب المؤسسات الصهيونية في اوروبا والعالم مِن كل مَن يحاول ان يقدم الرواية التاريخية للصراع على حقيقتها بعيدا عن خرافات الحركة الصهيونية التي تعمل على حياكة تاريخ مزعوم يظنون انه سيصبح حقيقة بتراكم الاجيال، ومعتمدين بذلك على فئات اجتماعية لا ترى الوطن والارض والشعب والتاريخ والكرامة الا من زواية مصالحها المادية.
*عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

Exit mobile version