بقلم: إيفار إيكلاند
أحيانا أتساءل إن كنت لا أزال أفهم اللّغة؛ فهذه إسرائيل تطلق هجوما جويّا على غزّة أسفر عن 49 شهيدا من بينهم 17 طفلا، متذرّعةً بأنّه تدبير وقائيّ. أيّ تدبير وقائي ذاك إذا علمنا أنّ إسرائيل لم تُسجّل منذ أسابيع أيّ عمليّة داخلها ولم تُسْتَهْدف بأيّ صاروخ؛ وعلى العكس من ذلك فإنّ التوغّلات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة قد تكاثرت، وكان آخرها اقتحام مخيّم اللاّجئين بجنين انتهى بقتل مراهق يبلغ من العمر 16 عامًا واعتقال المناضل الفلسطيني بسّام السعدي. وقد أصدرت وزارة الخارجية الفرنسيّة بيانا رسميّا لم يتضمّن إدانة للقصف الجويّ للسّكان المدنيين، وإنّما شجب “إطلاق صواريخ على الأراضي الإسرائيليّة” التي ردَّت عليه. كانت الذّريعة أمن إسرائيل، ولكن أيّ تهديد حقيقيّ شكّلته تلك الصّواريخ لأمنها؟ فمنذ خمسة عشر سنة تواصل إسرائيل، بتواطؤ مع القوى الغربية وغيرها، فرض حصار صارم على مليوني شخص، محدّدة حتّى الحصص الغذائيّة المتاحة لهم؛ وباتت غزّة سجّنا مفتوحا على السّماء، يطلق فيه القنّاصة النّار دون سابق إنذار على كلّ من يقترب من حواجز القفص، وتحوم فوقه المُسيَّرات دون توقّف. وقد اقتحم الجيش الإسرائيلي القفص خمس مرّات زارعا الموت والدّمار فكيف يقال إنّ أمن إسرائيل هو المُهَدّد؟
ولست وحدي من يعاني صعوبة فهم مثل ذلك الكلام، فما ترى قد جال في ذهن الأفارقة عند سماعهم الرّئيس الفرنسي خلال زيارته إلى الكامرون وهو ينعتهم بـ “النّفاق” لأنّهم، لم يحسنوا، على غرار القوى الغربيّة، “توصيف تلك الحرب كحرب حقيقيّة وعجزوا عن الإفصاح عمّن بدأها”؟ الحقيقة أنّه لم يكن يتحدّث عن غزّه وإنّما عن أوكرانيا! ولا شكّ أنّهم نصحوه في سرّهم بالاهتمام بشؤونه الخاصّة. وحين أقرأ أنّ نانسي بيلوسي صرّحت عند حلولها بتايوان في نفير جويّ وبحريّ صاخب وغير مسبوق، بأنّها رسولة سلام، أقول إنّني أعاني أيضا من صعوبات في فهم اللّغة الإنجليزيّة.
وكما قال الكاتب الألماني غوته في مسرحيته “فاوست” فإنّ التّاريخ يعيد نفسه ” auch hier geschieht was längst geschah”، (ويحدث هنا أيضا ما حدث منذ زمن طويل). وكان كارل كراوس، الكاتب النمساوي، قد أدان في بداية القرن العشرين انحرافات اللّغة ورأى فيها مقدّمات تنذر بحروب كان أن أغرقت العالم في الدّماء فيما بعد وعجّلت بأفول نجم أوروبا. لم تعد الكلمات غير قرع طبول يصاحب الهجوم بهدف التّغطية على ضجيج الطّلقات النّاريّة والانفجارات. لم تعد حاملة للمعنى ولا أحد يسعى إلى إقناع غيره فضلا عن أن يفهمه، مصداقا لمقولة مانويل فالس، رئيس حكومتنا السّابق: “إنّ في تفسير أمرٍ أو فهمه نوع من إيجاد العذر له”. إنّها مجرّد نعوت تُسْتَعمَلُ للتّعبير عن كراهية أو عن موافقة، مجرّد أضواء مرور ثلاثيّة الألوان تُقامُ في مدخل الطّرُقات لتبيّن إن كان بالإمكان سلوكها أم لا.
الفلسطينيون “إرهابيّون” من حيث كونهم فلسطينيين من الأكبر إلى الأصغر، ليس لأنّهم اقترفوا شيئا ولكن الحذر منهم واجب والأفضل إبقاؤهم في حيّزٍ مُقْفَل. أمّا دولة إسرائيل فهي “ديموقراطّية” بحكم تعريفها ويعني ذلك فقط أنّه لا يمكن اتّهامها بممارسة الفصل العنصري حتّى وإن نصَّ دستورها على أنّ اليهود وحدهم من لهم الحقّ في تقرير المصير. وكلّ من يستاء من ذلك، على غرار ما فعله برلمانيون تقدّموا بمشروع لائحة تدين الفصل العنصري في إسرائيل، فهو بحكم التّعريف “معادٍ للسّاميّة” مثلما تجرّأ على الإلماح إليه إريك دوبوند موريتي، وزير العدل الفرنسي الغارق حتّى العنق في قضايا تضارب مصالح. ذلك أنّ دولة إسرائيل رغم امتلاكها القنبلة الذّريّة وبرمجيّات التّجسّس وتمتّعها بدعم لا مشروط من قِبَلِ الإمبراطورية العالميّة الوحيدة، فهي مع ذلك “مُهدّدة”، وإذا كانت سلاحها الجوّي يقصف أهالي لا يملكون للدّفاع عن أنفسهم سوى بنادق وصواريخ، فإنّ فعلها يُعَدُّ بالضّرورة معركة من أجل البقاء. كلّ ذلك في تمام الضّبط والنّجاعة بحكم تكراره إلى درجة أنّه سيكون من الهزل لو لم يُسْتعمَلَ في تبرير اعتداءات أكثر فأكثر عنفًا ضدّ ملايين البشر أكثر فأكثر يأسا، وبتعليلات أكثر فأكثر تفاهةً. فالظّاهر أنّ إرسال الحكومة الإسرائيليّة طائراتها لقصف غزّة، إنّما يدخل في خانة الإعداد لانتخابات قادمة، يريد كلّ سياسيّ فيها أن يقيم الدّليل على عدم تساهله مع الفلسطينيين؛ فالأطفال يموتون في غزّة من أجل أنّ ينتخب الإسرائيليّون على نحو مناسب!
إنّ فقدان المعنى أو بالأحرى موت الكلمات معناه حرب الجميع ضدّ الجميع. وكما تقول القاعدة القانونيّة القديمة، فإنّ الثّيران تُشَدّ بالرّباط من قرونها بينما يُشدّ البشر بعضهم إلى بعض بالكلمة. فإذا مُنِعَ النّاس من الكلمة، فلا يبقى لهم من اختيار غير القوّة. وإنّ في استعادة الكلمات لمعانيها تقدّمٌ بالسّلام والعدالة، تلك الثّنائية منقطعة النّظير. لذلك فإنّ النّضال من أجل فلسطين يكتسي كلّ الأهمّية. فالأمر لا يتعلّق فقط بمصير ملايين من سكّان هذه الأرض مسلمين ويهود ومسيحيين، بل كذلك بالمعنى الذي ينبغي إعطاؤه للكلمات ذات الأهميّة مثل الإرهاب، والدّيموقراطيّة والاستعمار ومعاداة السّاميّة التي سيكون لها استعمال في سياقات أخرى، وفي مناطق أكثر قربا منّا. لكن الأولويّة الآن لشأن آخر. ينبغي إنهاء حصار غزّة وإيقاف الاستيطان في فلسطين.
إنّ ما أنجز من أجل غزّة يبيّن أنّ أوروبا قادرة على الفعل. لقد عاقب الاتّحاد الأوروبي روسيا بسبب عدوان يتواصل منذ ستّة أشهر وقد ينتهي إلى ضمّ أراضي أوكرانيّة، فلماذا لا تعاقب إسرائيل عن عدوان يتواصل منذ خمس وخمسين سنة؟ فالجريمة لا تختفي بمرور الزّمن، بل هي على العكس من ذلك تتجذّرُ ويصبح اقتلاعها أكثر صعوبة وتتطلّب المزيد من الجهد لمكافحتها.
*رئيس الجمعيّة الفرنسيّة للجامعيين من أجل احترام القانون الدّولي في فلسطين (AURDIP).