د. كريستوف أوبرلين:‏ مناضل فرنسي من أجل العدالة للفلسطينيين

 بقلم: د. أحمد يوسف ‏

كثيرون هم الذين يتعاطفون مع مأساة الشعب الفلسطيني في الغرب، ولكن ‏هناك من لمعت أسماؤهم وتركوا لهم أثراً توسعت آفاقه في الفضاءين ‏الإعلامي والإنساني، ولعل من بين هؤلاء المفكر والأكاديمي والجرَّاح ‏الفرنسي كريستوف أوبرلين، الذي شدّته معاناة الفلسطينيين وظلم السياسات ‏الغربية المتواطئة مع إسرائيل الدولة المارقة، والتي ضربت بقيم العدالة ‏عرض الحائط، حيث مارست جرائم الحرب، وانتهكت كلَّ الأعراف ‏والقوانين الدولية بارتكابها جرائم إنسانية بحق الشعب الفلسطيني، من خلال ‏عدوانها المتكرر على قطاع غزة.‏


كريستوف هو أستاذ جامعي يعمل في حقل التدريس والجراحات ‏التخصيصية، وهو ناشط يتمتع بحسٍّ إنساني راقٍ، وصاحب قلم يعمل ‏بحيوية إلى جانب مشرط الجراحة الذي يمارس من خلاله مهماته العلمية ‏والمهنية.‏

بدأت زيارات كريستوف إلى قطاع غزة منذ عام 2001، حيث كان يتردد ‏على القطاع مرتين أو ثلاث مراتٍ في العام، لإجراء عمليات جراحية ‏معقدة لضحايا العدوان الإسرائيلي من شباب الانتفاضة الفلسطينية أو ‏المشاركين في مسيرات العودة (اللاعنفية) على الشريط الحدودي، إضافة ‏إلى دورات تدريب عملية تخصصية لمجموعات من الأطباء العاملين بقسم ‏الجراحة في المستشفى الأوروبي وكذلك مشفيي الشفاء وناصر.‏

لم تقتصر تحركات كريستوف على الجانب المهني كأستاذ جرَّاح يتحرك ‏بدوافع إنسانية راقية، بل كشخص صاحب ضمير، تحركت فيه النخوة ‏بأبعادها القيمية ومشاهد العدالة المعطلة التي استباح طهارتها الصهاينة، ‏وتسببوا في أن يخسر الغرب مكانته الحضارية، لانحيازه الشائن في الدفاع ‏عن جرائمهم وما يقترفونه من مظالم بحق الفلسطينيين، وذلك بذريعة ‏المجازر كالمحرقة (الهولوكوست) التي وقعت لليهود خلال الحرب العالمية ‏الثانية، وصارت تهمة “معاداة السامية” كذلك جريمة تلاحق بها كل من ‏يحاول أن يقول لهم: “كفى.. فالفلسطينيون هم أيضاً بشر يستحقون ‏الحياة”.‏

لم تنطلِ تلك الاتهامات على شخص مثل كريستوف بوعيه المتقدم، ‏ومشاهداته لجرائم الاحتلال المتكررة، وبضميره الذي ينبض بصحوة لم ‏تخضع أو يتم ابتزازها بمثل تلك الادعاءات والأباطيل. ‏

كان أول من حدثني عن البروفيسور كريستوف ودعاني للقاء به على ‏العشاء في بيته بمنطقة عبسان د. سليمان بركة، أستاذ علم الفلك بالجامعة ‏الإسلامية، حيث جمعتنا جلسة تعارف وحوار، تحدث فيها كريستوف عن ‏مهمته الإنسانية وأنشطته في التعريف بالمظلومية الفلسطينية.‏

وقبل أن ينفضَّ ذلك اللقاء بنقاشاته الشيِّقة، أهداني كريستوف كتابين ‏أحدهما عن “مبعدي مرج الزهور” وآخر عن غزة، وذكر لي أن في جعبته ‏أكثر من مشروع كتاب عن القضية الفلسطينية، وعن ممارسات الاحتلال ‏الاجرامية بحق الفلسطينيين.. لقد انتهى كريستوف حديثاً من نشر كتاب ‏عن محاكمة جنرالات الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو يعكف ‏حالياً على وضع كتاب عن حياة الشيخ أحمد ياسين ومسيرته النضالية ‏باللغتين الفرنسية والإنجليزية.‏

توطدت العلاقة والتواصل بيننا، حيث دعوته إلى معهد بيت الحكمة أكثر ‏من مرة، وجرى بيننا أكثر من حديث مستفيض حول رؤيتي للصراع ‏ومستقبله مع الاحتلال، وما الذي يتوجب علينا عمله لتقديم السردية ‏الفلسطينية بشكل أفصل في الغرب، ودحض ما تقوم به إسرائيل وماكينة ‏إعلامها الدعائية من شيطنة ممنهجة للفلسطينيين ومقاومتهم الباسلة.‏
ومنذ ذلك اللقاء، ظلت الفضاءات المعرفية تتوسع لقاء بعد آخر ومن عامٍ ‏لآخر. كنت سعيداً بهذه اللقاءات المتكررة، والتي تتجدد معها الرؤية ‏والموقف في كيفية مقارعة الاحتلال وفضح جرائمه في الساحات الغربية.‏

كان قلم كريستوف لا يهدأ بل دائم الحضور بمقالات وتعليقات في ‏الصحافة الفرنسية، كما كان له ظهور على بعض الفضائيات الغربية.‏

يعتبر كريستوف مفكر ذو توجهات يسارية؛ بوجهات ومبادئ وسلوكيات ‏إنسانية، لا تمتلك كإنسان إلا أن تُقدر ما يقوم به، وتحترمه لأخلاقياته ‏العالية وأدبه الجمّ.‏

‏ في 27 شباط الماضي، استضفناه بمعهد بيت الحكمة، حيث قدَّم عرضاً ‏لكتابه “قيادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية”، حيث سرد لجمهور ‏الحضور رحلته مع هذا الكتاب، والجهود الني بذلها لتحريك الرأي العام ‏الأوروبي ومؤسسات المجتمع المدني لتحقيق ثقل جمعي لأخذ القضية بقوة ‏للجنائية الدولية (‏ICC‏)، بهدف قطع الطريق أمام هؤلاء الجُناة المحتلين ‏من التطاول والتغني بالإفلات الدائم من العقاب.‏

قبل أن يضع كريستوف لمساته الأخيرة على الكتاب، تواصل معي ‏لمساعدته في معرفة بعض التحركات والجهود التي قامت بها الجهات ‏العدلية في قطاع غزة حول هذه القضية.‏

كلمة أخيرة.. البروفيسور كريستوف إنسان مناضل وصاحب موقف ونصير ‏متميز للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، يستحق منا حقيقة كلَّ التقدير ‏والثناء على ما بذله ويبذله من جهود للتعريف بقضيتنا في المحافل الغربية ‏والساحات الإعلامية، وإذا كان للمشرط الذي يحمله من دور في تطبيب ‏جراحات ضحايا العدوان الإسرائيلي من أبناء شعبنا في قطاع غزة، فإن ‏لقلمه كبير الأثر في إيصال حالة المظلومية الفلسطينية للعالمين.‏

لمثل هؤلاء الرجال نرفع القبعة، ويلهج بذكرهم اللسان بحميد الكلام.‏

Exit mobile version