لا يتوقف الطفل كريم هندومة (ذو عامين) عن البكاء طيلة الوقت، وليس باستطاعته التعبير عن مدى اشتياقه لأبيه سوى ببعض الكلمات التي اعتاد النطق بها من أجل الحصول على رغباته البسيطة مثل أي طفل آخر في سنه.
وبات الشعور بفراغ كبير يلاحق الطفل هندومة بعد أن غيّب القدر والده أحمد (32 عاماً) عنه وأمه الحامل وعائلته الذين كانوا ينتظرون وصوله إلى منزلهم بقرية روجيب شرقي مدينة نابلس، لكنه رحل وزميله سعيد كوني (37 عاماً) قبل عودتهما من العمل، واستشهدا في سبيل توفير لقمة العيش الكريم لأطفالهم.
ويقول جد الطفل، غسان هندومة: “لقد افتقد حفيدي كريم كل اللحظات الجميلة التي كان يشاركها مع أبيه أحمد بعد عودته من العمل، حيث كان يصطحبه من أجل التنزه وشراء كل ما يرغب به، ولكنه الآن يظل يبحث عن أبيه رحمه الله، ويناديه كي يأخذه للتجول في السيارة كما اعتاد دائماً”.
كان ينتظر طفلته ضحى
ويتابع، هندومة : “وابني كان ينتظر قدوم مولودته الجديدة، لكنه رحل قبل أن يراها، فزوجته حامل وبعد ثلاثة أشهر تضع طفلته التي أراد أن يسميها ضحى، ولكن الآن سيعيش أبناؤه بلا أبّ، وصغيرته لن تعرفه إلا من خلال الذكريات والصور التي تجمعه مع أفراد العائلة”.
ويتحدث والد الشهيد هندومة، عن رجل مبادر وشجاع يخاف على الجميع، فيغامر كثيراً بعمله في تمديد خطوط المياه والصرف الصحي أو إعادة تأهيلها من أجل توفير بيئة صحية وآمنة للمواطنين، موضحاً أنه كان يحثه دائماً على توخي الحذر في المهمات الصعبة.
فارق الحياة قبل بناء منزله الجديد
ويتزامن عمل الشهيد هندومة مع المراحل الأولى لبناء منزله الجديد –يضيف والده-، وكان سعيداً بذلك فقد جهّز الأرض وحفر الأساسات، لكنه فارق الحياة قبل الانتهاء من بنائه، حيث كان قبل وفاته على استعداد كامل لصبة أرضية المنزل، ويتجهز أيضاً لتقديم الغداء والحلويات للعمال والأقارب كما هي العادة.
تابع والحزن يثقل كاهله بفقدان فلذه كبده: “لحظات كثيرة تجمعني وأمه وأخوته به، منها أنه حينما يعود من عمله كان يأتي لرؤيتنا ويجلس معنا قبل الذهاب لمنزله، كما لا يرفض لنا أي طلب ويساندنا في كل خطوات حياتنا”.
وبين غصة القلب ودموع الألم على رحيله يستذكر قائلاً: “طلبت منه مؤخراً تقليم شجرة المشمش أمام منزلنا وغيرها من الأشجار، وبالفعل قام بذلك دون تردد، ولن أنسى أيضاً حينما رافقته للمستشفى ليتلقى العلاج جراء إصابته بمرض شديد، حيث قضينا معاً أوقات طويلة حتى تعافى”.
مشاعر الحزن والصدمة تخيم على عائلة كوني
ولم يختلف المشهد كثيراً في منزل شهيد لقمة العيش الاخر، سعيد كوني، من مدينة نابلس، وهو الضحية الثانية لهذا الحادث المأساوي، بل لا زالت عائلته تعيش أجواء الألم والحزن وسط مشاعر الصدمة من هول هذه الفاجعة القاسية.
تسرد شقيقته، نرمين كوني، بحرقة عن فراقهم لسعيد، حيث قالت: “نحن عشنا معه ومع زوجته وأبنائه أياما جميلة ولدينا الكثير من اللحظات والتفاصيل اليومية التي اعتدنا أن نتشاركها معاً، فكان سعيد معيلا لأبنائه وزوجته كي يعيشوا حياة كريمة، كما أنه معينٌ لنا ولأمي بعد رب العالمين، وسندنا بعد وفاة والدي الذي لم نكد نتعافى من أثر رحيله حتى يلحق به ويترك بدواخلنا فراغاً لم نستوعبه بعد”.
وأضافت: “سعيد هو الابن الثالث من بين ستة أبناء لأهلي، ولديه أربعة أطفال هم براء ورهف وهاني بالمرحلة المدرسية، ثم شام (3 سنوات) وهي أصغرهم”، مشيرة إلى أن أخيها أسير محرر أيضاً وقد أمضى ثلاث سنوات في سجون الاحتلال الاسرائيلي.
شوق كبير لذكرياتهم معه
وتقف على اطلال ذكرياتهم معه فينتابها شوق كبير، قائلة: “أخي الحنون كان سندا لنا في كل الأوقات ويحاول أن يعوضنا ولو قليلاً عن غياب أبي، فيرافقنا إلى أي مكان نريد الذهاب إليه، ويظل يطمئن علينا باستمرار، ويساعدنا في مختلف أعمال المنزل، ونتشارك معاً جميع المناسبات وأفراح العائلة وأعياد ميلاد أبنائه وكذلك الأحزان”.
وتستطرد نرمين: “وسعيد محبوب بين الناس، يشارك الجميع في مختلف مناسباتهم، ودائماً يسعى لأعمال الخير ويساعد أهل البلد من كبار السن أو الشباب بقدر استطاعته سواء على صعيد عمله في تأهيل شبكات المياه والصرف الصحي أو حتى في شؤون أخرى، ويقدّم ذلك على نفسه مهما كانت الخطورة المترتبة عليه”.
وتلفت إلى أنه كان بمثابة النور بالنسبة لهم، حيث شاء الله بأن يرزق والداها أربعة أبناء مكفوفين –وهي من بينهم- لذلك كان سعيد مدللاً منذ صغره وكأنه الفرحة الأولى للعائلة بعد شقيقين من ذوي الإعاقة البصرية.
كان الداعم الأول لأخوته المكفوفين
وأوضحت بأن تلك الإعاقة لم تشكل عجزاً بالنسبة لهم، بل أنهم يعيشون حياة مشتركة مع أسرة سعيد ويتعاونون سوياً لمواجهة مصاعب الحياة ويتبادلون الأدوار فيما بينهم.
وقالت: “إننا لم نشعر للحظة بأن الحياة صعبة دون بصر، لأن الله عوضنا بنعم كثيرة غيره، وكلنا تعلمنا في مدارس داخلية للمكفوفين، وأنا أكملت تعليمي الجامعي أيضاً، كما أننا موهوبين في العزف والغناء ولدينا أعمال فنية عديدة، حتى أن أخي سعيد رحمه الله كان الداعم الأول لنا”.
تتابع وهي في حيرة من أمرها: “وكان من المزعج أن ينظر الناس لنا بشفقة خاصة في مثل هذه الظروف، حيث لاحظنا ذلك بعد حادثة وفاة أخي، فالأمر غير محبذ بالنسبة لنا، ولكننا نرحب بنظرة التضامن المجتمعي بأنه من حق هؤلاء الناس العيش في حياة كريمة ولابد من تحصيل كامل حقوق العاملين وأسرهم”.
الحادث صار هاجساً للعائلة
وتسترسل قائلة: “لابد من مراعاة مشاعر عائلات الضحايا في مثل هذه الحوادث، ولأن تداول الصور ومقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي بات يشكل هاجساً نفسياً بالنسبة لنا، فلا يغيب عن بالنا وقائع انتشال أخي وزميله، والحدث مؤلم جداً، وأصبح من المستحيل أن أنسى أيضاً حينما تلقّت ابنة أخي الصغيرة نبأ وفاته من خلال مشاهدتها صورته عبر الرسائل الفورية على إحدى قنوات “تيليجرام”، فالموقف صعب جداً”.
ويُذكر أن الضحيتين هما العاملان في قسم الصحة والبيئة لدى البلدية، وقد توفيا قبل ثلاثة أسابيع من الشهر الحالي جراء انهيار التراب خلال عملهما بمشروع الصرف الصحي في أحد الشوارع بمنطقة رفيديا بالمدينة.
وأكد ذوو الضحيتين إيمانهم بأقدار الله والصبر لحكمه على مصابهم الجلل، متمنيين أن تبقى ذكراهم الحسنة حاضرة بين الناس والدعاء الدائم لهم بالمغفرة والرحمة، مضيفين بأنه لا بد بأن تُرد الحقوق لأصحابها حتى يعيش أبناء العاملين حياة كريمة، وأنه يجب الاهتمام بالرقابة على هذه الأعمال والالتزام بكل إجراءات السلامة العامة حفاظاً على أرواح العاملين من تلك المخاطر التي تودي بحياتهم.