أجرى وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، مقابلة مع صحيفة “معاريف” تحدث خلالها عن الدور الذي لعبه وإدارة الرئيس الأميركي حينها، ريتشارد نيكسون، في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، والخدمات الحاسمة التي قدمتها لإسرائيل، والتي أثرت على سير المعارك على الأرض، كما كانت لها وزن كبير في المحادثات اللاحقة التي انتهت إلى اتفاق “سلام” بين مصر وإسرائيل.
وخلال المقابلة، أشار كيسنجر إلى التقديرات الأميركية بشأن توازن القوات العسكرية لكل من مصر وسورية من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، كما تطرق إلى عملية الإمداد الجوي الإستراتيجية التي نفذتها الولايات المتحدة لصالح إسرائيل خلال الحرب، وإلى تعاطي واشنطن مع الحرب من خلال منظورها للحرب البادرة التي كانت تخوضها مع الاتحاد السوفيتي حينها.
“عقدنا العزم على منع تحقيق نصر عربي”
وفي معرض حديثه عن استقبال إدارة الرئيس الأميركي لخبر نشوب الحرب، قال كيسنجر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ثم منصب وزير الخارجية، “عقدنا العزم منذ اليوم الأول على منع نصر عربي في الحرب، الأمر الذي كان من الممكن تفسيره على أنه انتصار سوفيتي. لذلك كنا مقتنعين منذ اللحظة الأولى بضرورة العودة إلى الخطوط التي كانت معتمدة قبل اندلاع المعارك”.
وقال كيسنجر إن “صورة المعركة كانت مختلفة تماما عن تلك التي رسمها الخبراء الأميركيون في مخيلتهم عندما ذاع خبر الهجوم المصري. عندما اندلع القتال نجح المصريون في ضرب خط بارليف والدفع بأكثر من مئة ألف جندي ونحو 400 دبابة ووحدات كوماندوز إلى سيناء وبناء عدة جسور فوق القناة”.
وأضاف أنه “في الأيام الأولى من الحرب، فقدت إسرائيل يوميا ما يقرب من 200 مقاتل. وتم أسر العديد من جنود الخط الأول من قبل الجيش المصري. لم يكن لدى سلاح الجو الإسرائيلي رد حقيقي على أنظمة الصواريخ 6-SA سوفيتية الصنع. وانضم الطيارون الذين أصيبوا وتمكنوا من الهروب بواسطة مقاعد النجاة إلى رفاقهم في الأسر”.
وتابع “تعرضت طوابير المدرعات الإسرائيلية التي كانت تتقدم في سيناء وسط حالة من الفوضى، للهجوم جوي مصري”.
وبحسب كيسنجر، فإنه “في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، خسر سلاح الجو الإسرائيلي 49 طائرة مقاتلة، وتضررت 500 دبابة في سيناء. كان هناك نقص في ذخيرة المدفعية في مستودعات الطوارئ وتم اكتشاف معدات قتالية صدئة جزئيًا وغير صالحة للاستعمال”.
وفي إطار مساعيها لتدارك الأمر، وفي ظل العزلة الدولية التي تعاني منها، توجهت الحكومة الإسرائيلية التي كانت في حالة ذهول في الأيام الأولى للحرب، إلى المسؤول الأميركي الذي كان يعتبر مقربا من إسرائيل ومنحاز لها، وهو الانحياز النابع من انتمائه اليهودي، وأيديولوجيته الصهيونية.
من قافلة مساعدات مدنية لـ”عملية عشب النيكل”
وهنا يتحدث كيسنجر عن زيارة قام بها السفير الإسرائيلي لدى واشنطن حينها، سيمحا دينيتس، والملحق العسكري الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، إلى مكتبه في واشنطن، ثالث أيام الحرب، ونقلا طلبا عاجلا من رئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها، غولدا مائير، بتجديد إمدادات الأسلحة الأميركية والمساعدات العسكرية لصالح إسرائيل.
وقال المسؤول الأميركي السابق والبالغ 100 عام من عمره، “طرحت مسألة تجديد الإمدادات لإسرائيل. تذكروا أننا بدأنا إجراء المناقشات حول الحرب على افتراض أن التفوق العسكري كان لصالح إسرائيل. لم نأخذ على محمل الجد أبدًا إمكانية اضطرارنا للتعامل مع وضع يتمتع فيه السوفييت بميزة أو تفوق ما”.
وتابع “عندما بدأت الصورة تتضح لنا، بدأت المناقشات حول إعادة تزويد إسرائيل بالأسلحة. عارضت وزارة الدفاع (البنتاغون) بشدة تجديد توريد المعدات الأميركية؛ لذلك اقترحنا على إسرائيل أن ترسل طائرات ونقوم بتحميلها بالمعدات. كانت في الأساس معدات عالية التقنية يمكن استخدامها في الحال”.
وقال إنه في هذه المرحلة أبلغ إسرائيل بقرار الإدارة الأميركية الذي شمل تعهدا بتنظيم جسر مساعدات جوي “مدني” على الفور، وأشار إلى أنه “اعتقد أنه يمكن البدء بهذه الجهود دون تأخير من خلال منح الإذن لشركات الطيران المدنية، لإتاحة الطائرات لهذه الجهود”.
وأضاف أنه واشنطن واصلت في هذه الأثناء، إمداد تل أبيب بالمعدات العسكرية بواسطة الطائرات الإسرائيلية، وأشار إلى صعوبات في عملية شحن الإمدادات العسكرية بواسطة قافلة طائرات مدنية، الأمر الذي أدى إلى تطورات سرعان ما حوّلت قافلة المساعدات المدنية لـ”عملية عشب النيكل”.
وقف إطلاق النار وحسابات سوق الأسلحة
وأشار كيسنجر أنه عارض مناقشة طلب إسرائيلي بوقف إطلاق النار فيما كانت إسرائيل قد بدأت بالتحضير للهجوم على الجولان السوري، وقال: “كنت ضد وقف إطلاق النار بشدة بينما تستمر المكاسب المصرية في ساحة المعركة. لقد أولينا أهمية كبيرة لخطر أن يُنظر إلى الأسلحة السوفيتية على الساحة الدولية على أنها ذات جودة أعلى بسبب النجاحات التي حققها الجيش المصري”.
وتابع “عندما بات واضحًا لنا أن القافلة الجوية المدنية لم تكن قادرة على الإقلاع بالسرعة التي كنا نعتقدها في البداية، اقتربت من نيكسون وأخبرته أننا بحاجة إلى مستوى آخر من الإمداد الجوي للتأثير على ساحة المعركة. أخبرته أننا بحاجة إلى قطار جوي عسكري. نيكسون أمر بتنفيذ الجسر الجوي إلى إسرائيل على الفور وبكامل القوة”.
وأضاف في يوم الجمعة، أي بعد أقل من أسبوع من اندلاع الحرب، انطلقت القافلة الجوية محملة بالمعدات العسكرية. وأوضح “لقد استغرق الأمر ثلاثة أيام حتى يتمكن الجيش الأميركي من جمع المعدات اللازمة. ولم يكن لدينا حليف محظوظ إلى هذا الحد. أنا لا أقبل بأي حال من الأحوال ادعاءات التأخير، لأنه حتى صباح يوم الثلاثاء كان لدينا انطباع بأن الإسرائيليين قادرين على حسم الحرب بسهولة”.
“الانسحاب مقابل الاعتراف”
وكشف كيسنجر أنه في شباط/ فبراير 1973، قبل نحو 8 أشهر على نشوب الحرب، “أرسل (الرئيس المصري الراحل، أنور) السادات، مستشاره لشؤون الأمن القومي، حافظ إسماعيل، إلى واشنطن لبحث إمكانية التحرك نحو السلام. لكن المبادرة كانت مبنية على الخطة العربية. أي تراجع إسرائيل إلى الحدود التي سبقت حرب 67 في جميع القطاعات، مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل”.
وأضاف “أعتقد أنه لم يكن من الممكن منع الحرب إلا إذا كانت إسرائيل مستعدة للانسحاب إلى حدود 1967. كان ذلك مستحيلاً. كان من شأنه أن يعرض طريق تل أبيب-حيفا للهجمات. ويجب أن نتذكر أيضًا أن جميع الأطراف في إسرائيل عارضت ذلك ولم تكن ستسمح بمثل هذا الاتفاق”.
وتابع “الخيار الوحدي المتبقي هو فرض الاتفاق على إسرائيل، أنا عارضت ذلك بشدة. من المحتمل أنه حتى لو تراجعت إسرائيل، فإن ذلك لم يكن ليمنع الحرب، لأن السادات كان قد توصل بالفعل إلى استنتاج مفاده أن العالم العربي يحتاج إلى جرعة من النصر العسكري لتجنب الشعور بأن الفشل ضد إسرائيل أمر لا مفر منه”.
واعتبر أن أي إدارة أميركية مغايرة كانت ستسعى لفرض اتفاق كهذا على إسرائيل، عبر إجبارها على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حزيران/ يونيو 1967، مقابل الحصول على اعتراف الدول العربية بإسرائيل؛ مستدركا بالقول: “لكن الرئيس نيكسون وبدعمي الثابت عارضها تمامًا”.
وقال إن وزراء الخارجية العرب زاروا واشنطن خلال الحرب وطالبوا بانحساب إسرائيل وعرضوا مجددا اعتراف عربي شامل بإسرائيل مقابل الانسحاب؛ وأوضح “يجب التأكيد بوضوح على أننا لم نفكر قط في انسحاب إسرائيلي كامل إلى حدود 1967، وبالتالي لم نقم بمثل هذه المفاوضات، وكان طموحنا هو إقناع الطرف الآخر بالموافقة على انسحاب جزئي مقابل تفاهمات سياسية من شأنها أن تعزز أن إسرائيل”.