بقلم: نبيل عمرو
“معذرة على الاطالة فالحكاية عصية على الاختصار”
كان شهرا رمضان وأيّار اكثر الشهور حرارة ونزفا، فلقد تجمعت فيهما كل العناصر التي تؤدي الى انفجارات أوسع واعنف، دم غزير سال من ضفتي الصراع، وتداخل مناسبات لم تهيج الذاكرة فحسب، بل هيجت المبادرات الفعالة من جانب الفلسطينيين.
كانت أياما قليلة من عمر الزمن الطويل، محت من الواقع أي احتمال لترويض الصراع واعادته الى مسار سياسي تفاوضي او ما هو قريب منه ، وأوقفت الوسطاء التقليديين امام جدار عجز لم يستطيعوا حياله اكثر من تحقيق بعض تهدئة مؤقتة تضع الجمر تحت الرماد دون ان تطفأ جذوته الجاهزة للاشتعال من جديد، والامر لا يحتاج لاكثر من شرارة.
كل احداث رمضان وايار وان كانت الأعنف والأكثر دموية خارج اطار الحروب الواسعة، الا انها كانت غير مفاجئة حتى ان إسرائيل ”دولة الامن والجيش والاستخبارات” لم تخف رعبها من الشهرين وما قبلهما بقليل، فقامت بوضع مئات الالاف تحت السلاح ورفدتهم بقوى جديدة وكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وصل ذروته القصوى، وكأن كل ما عمل في الماضي من اجل احتواءه وإيجاد حلول وسط له اضحى مجرد اضغاث أحلام واوهام، لا تجرؤ حتى المخيلة على استعادته.
ان ما ارعب إسرائيل ” الدولة السطحية والعميقة ان كل الاحداث القوية التي وقعت خلال رمضان وايار وما قبلهما كان مركزها في القول والفعل القدس، ليس فقط كمكان نوعي للمواجهات بل كحالة صراع مصيري بين طرفين حول المستقبل، والامر هنا لم يكن صراعا على حرية الصلاة في الاقصى والقيامة ولا من اجل تثبيت الامر الواقع المتفق عليه بشأن المقدسات، بل من اجل هدف اكبر هو على الجانب الإسرائيلي تثبيت المدينة كعاصمة موحدة للدولة العبرية وليس للفلسطينيين منها وفيها اكثر من بعض التسهيلات التي تمر من نفق ضيق اسمه الاعتبارات الأمنية، بحيث يملك شرطي فتحه او اغلاقه.
اما على الجانب الفلسطيني وهذا هو بيت القصيد فهي اهم واعمق عامل توحيد شعبي فشلت فيه القوى السياسية ونجح فيه الناس، وهي كذلك المولد ذو المفعول السحري لكل ما من شأنه ايقاظ الوطنية الفلسطينية، ليس في المدينة واكنافها وانما حيث وجد فلسطينيون في كل مكان.
وحيث يوجد مؤمنون بعدالة الحقوق الفلسطينية وبطلان الاحتلال القسري لها، اذ لم يبق الامر في اطار المطالبات والامنيات بل وصل حد فعل هز الدولة العبرية “القوية” من اساساتها وجعلها رغم كل المظاهر السطحية والاحتفالية عاجزة تماما عن رؤية عاصمة حقيقية، اذ لم تعد موحدة وبداهة لم تعد ابدية. وهذا ما اعترفت به نسبة عالية من الإسرائيليين الذين ينتمون الى اجتهادات سياسية وفكرية متباينة ومتعارضة، ففي القدس وبالذات القديمة منها ظهر حملة اعلام 67 ليس كمحتفلين بمدينة دانت لهم بل كمحتلين لمدينة ليست لهم.
مرت عقود على احتلال القدس ثم توحيدها المستحيل، ولم تبق وسيلة لهضمها وتطبيع وضعها كعاصمة مكرسة مستقلة اسوة بكل عواصم الدول الا وتم انتهاجها ولم يعد يعرف على وجه الدقة كم من المليارات انفقت وهي اكثر من أي تصور على كل حال، وكم من مقتلة حدثت وكم من حريق اشعل والنتيجة التي لم تظهر فقط في شهري رمضان وايار وانما منذ الأيام الأولى لاحتلالها والى ما لا نهاية، قالت ان لم يتمكن الفلسطينيون من جعل القدس عمليا عاصمتهم الا انهم تمكنوا من منعها ان تكون عاصمة لإسرائيل.
وفي لحظة تاريخية اعترف الإسرائيليون الرسميون أصحاب القرار بأن عاصمتهم الموحدة والابدية ستعود الى الفلسطينيين ولو ببعض النواقص، ولمن نسي كان ذلك خلال المفاوضات التي اقتربت من ان تصبح تسويات في كامب دافيد بيل كلينتون وايهود باراك وياسر عرفات.
احداث الشهرين الكبيرين اعادت طرح القضية من جذورها وليس من قشورها، ولقد حبس العالم أنفاسه من انفجار وشيك ينقل الاهتمام الدولي من البؤرة الأوكرانية الكونية الى البؤرة الفلسطينية الشرق أوسطية، وهنا تراجعت في الاهتمام فوارق القوى المتحاربة في قلب أوروبا لينهض فارق قوة من نوع مختلف لا حل ولا حسم له بفعل الـ F35 ومفاعل ديمونا ، فارق قوة اقرب الى المعجزة انجزه الفلسطينيون الذين بلا سلاح في وجه الإسرائيليين الذين في يدهم كل السلاح، ففي أوكرانيا وروسيا لا توجد ال F35 ولكنها توجد عندنا ويبدو انها لا تنفع حين يكون الناس والحقوق هما السلاح.
مرت مسيرة الاعلام ووصل اشرس عنصري عرفته البشرية الى باحة الأقصى ووصل قبله وبعده الاف ممن هم على شاكلته، تحت حراسة الدولة وليس مجرد الشرطة، لم يكن لدى الفلسطينيين بعضا مما لدى الإسرائيليين من إمكانيات ضخمة اغرقت المدينة بالمتظاهرين والاعلام ومن خلال العصبية التي ظهرت تبين ان الرايات الإسرائيلية التي ارتفعت بالالاف لا تثبت وحدة ولا سيادة ولا مصير، ورغم كل ما يسجل وبصورة حاسمة لمصلحة إسرائيل كتفوق عسكري وتحالفي ومادي الا ان ما سجل مقابل ذلك ان حكاية الموحدة والابدية لم تعد قائمة وباعتراف كثير من الإسرائيليين فقد ظهر توصيف جديد وواقعي للرواية الإسرائيلية مفاده ” القدس الموحدة الأبدية أضحت العاصمة الإشكالية والمستحيلة”
عودة الى العنوان وأذكّر بأن حماس تصدرت المشهد في فصله الأخير وصارت قبلة للزوار والوسطاء وهذا امر بديهي في زمن لا يحكى فيه الا مع من يحمل السلاح ويستخدمه، وهنا وبكل الرفق أوجه جملا قصيرة للاخوة في حماس ومن معهم من فصائل لأقول… لقد اخطأتم بالمبالغة في التهديد والوعيد ما رفع اسقف التوقعات منكم ولكنكم وربما مضطرين وهو كذلك بالضبط، اصبتم في قرار وفعل اللا مواجهة ليس استجابة لجهود الوسطاء، وانما بفعل عدم القدرة على تحمل ما ستخلفه المواجهة الواسعة من دم وركام فوق الركام الذي لم يرفع بعد، ونصيحتي تواضعوا كثيرا في اللغة لأن المغالاة والمبالغة تشبه الصعود الى اعلى الأبراج والباقي عندكم.
القدس… كما برهنت منذ احتلالها ووهم توحيدها في حزيران 1967 تمتلك في ذاتها قوة تأثيرها وكلمة السر هي الناس واولهم من لم ولن يغادروها.