بقلم: محمود الريماوي
في وقتٍ كانت فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحشد نحو ثلاثة آلاف شرطي، إضافة إلى كل ما يتيسر من حرس الحدود وعناصر الشاباك (الأمن الداخلي) في البلدة القديمة من القدس الشرقية المحتلة وفي منطقة المسجد الأقصى، وبينما توجه ربع مليون فلسطيني لأداء الصلاة في ليلة القدر، رغم العوائق والتقييدات الإسرائيلية، كانت وكالات الأنباء تطيّر برقيات إخبارية تتعلق بتحرّكات سياسية بخصوص المقدّسات. وحيث يؤدي الأردن دورا محوريا في هذه التحرّكات، كان أول هذه البرقيات يتصل بالإعلان عن اجتماعٍ مرتقب للجنة أردنية إسرائيلية، هي “لجنة شؤون القدس المشتركة”، حسب موقع “واللا” الإلكتروني الإسرائيلي. ووفقا للتقرير، سوف يلتئم الاجتماع المزمع بعد انقضاء شهر رمضان، ويتناول زيادة عدد حرّاس الأوقاف الإسلامية الذين يتبعون وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الأردنية. ويرى الأردن، حسب التقرير، أن من شأن تعزيز دور مجلس الأوقاف وزيادة عدد حرّاس المسجد الأقصى أن يساعد على “حفظ الهدوء”، ويمنع ما تدّعيه إسرائيل من “أعمال الشغب” في الأقصى وباحاته، ما يلغي ذريعة قوات الاحتلال لاقتحام الأقصى. وفي التقرير أن واشنطن تدفع باتجاه تنسيق ثلاثي أردني إسرائيلي فلسطيني لنزع فتيل التوترات الدائمة في الأماكن المقدسة، وذلك على طريقة إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، في إدارة هذه الأزمة بدلا من التقدّم على طريق حلها.
ولم يسبق أن جرى الإعلان عن “لجنة شؤون القدس المشتركة” بين الجانبين، ولوحظ أن عمّان لم تعلن من جانبها عن هذا الاجتماع المفترض، غير أنه في اليوم ذاته، وهو الأربعاء 27 إبريل/ نيسان، كان العاهل الأردني، عبدالله الثاني، يستقبل الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، على رأس وفد. وقد أعرب الملك عن تضامنه الكامل مع الفلسطينيين، معتبراً أن التضييق الذي طاول المصلين في القدس، وتقييد حركة المسيحيين والتأثير على احتفالاتهم الدينية مرفوضان، وقد أطلع ضيفه على أجواء اللقاء الثلاثي، أخيرا، في القاهرة الذي ضمّ الرئيس عبد الفتاح السياسي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وتناول الوضع في القدس والمقدّسات، بغياب الطرف الفلسطيني المعني. وكان البيان الرسمي عن الاجتماع الثلاثي في القاهرة قد التزم بمواقف جامعة الدول العربية بالتنديد بالتعدّيات الإسرائيلية والتضامن مع الجانب الفلسطيني في وجه التضييقات.
وما يسترعي الانتباه أن الصمود الشعبي الفلسطيني في القدس، ودفاعا عن المقدّسات، قد أسهم بصورة ملحوظة في كسر الجمود الذي يعتري واقع الصراع، كما أدّى هذا الصمود إلى تركيز أضواء كاشفة على زيف ادّعاء أن القدس “عاصمة للشعب اليهودي”، كما يروّج الاحتلال، وأن القدس مدينة محتلة، والسيادة فيها للشعب الرازح تحت الاحتلال. أما المقدّسات الإسلامية والمسيحية، ووفقا لاتفاق فلسطيني أردني، فتتمتع بوصاية هاشمية أردنية عليها، وأنه لا سلطة بالتالي لأي طرفٍ غير مسلم وغير مسيحي على هذه الأماكن المقدّسة. وقد كان لاستئناف حكومة نفتالي بينت نهج حكومات نتنياهو السابقة إزاء هذا الملف أن شهدت العلاقات الأردنية الإسرائيلية ما يشبه الانتكاسة، بعدما بدا أنها قد تحسّنت في الأشهر الأولى لتشكيل حكومة بينت، وهو ما يفسّر غياب الأردن عن اجتماع ثلاثي عربي إسرائيلي في القاهرة بحضور بينت، علاوة على الامتناع عن حضور اجتماع النقب.
والحال أن وضع الحرم القدسي (المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة) قد أخذ يتكرّس بأنه ليس مجرّد مركز ديني، بل هو كذلك مركز إشعاع روحي وجزء أصيل من الهوية الوطنية والتاريخية للشعب الرازح تحت الاحتلال. وليس بعيدا عن الأقصى ينتصب على مسافة 500 متر، المكان الديني المسيحي عالي المكانة ورفيعها، ممثلاً بكنيسة القيامة الكائنة في البلدة القديمة، والتي تضم قبة السيد المسيح، ما يعزّز المكانة الروحية للقدس الشرقية، وحيث يدين الفلسطينيون أبناء المدينة وأصحابها بالإسلام والمسيحية. ويمتزج الانتماء الديني بالانتماء الوطني مع احترام تام لمعتقدات الغير. وتدلّ التطورات التي تشهدها المدينة المقدّسة، منذ احتلالها في عام 1967، على أن من غير الممكن الفصل بين الاحتلال قوّة غاشمة، تقوم على إنكار حقوق الغير في أرضهم وموطنهم، والنزعة العنصرية البغيضة التي تُبديها سلطات الاحتلال تجاه كل ما هو غير يهودي، وأن تحرير المقدّسات من التعدّيات والانتهاكات يمُرّ، حكماً وبداهة، بالخلاص من هذا الاحتلال الذي طال العهد عليه، وأنه بالتالي، واستجابة للتحدّي، لا مفرّ من الاحتفاظ بروح صراعية، على الرغم من المعاهدات السلمية الموقّعة، باعتبار التمسّك بهذه الروح يمثل حاجة ومصلحة وطنيتين، وعدم التشبيك “أكثر مما يجب” في مجالاتٍ حيوية مع الطرف الآخر، كمجاليْ الطاقة والمياه.
وفي متابعة التحرّكات والتطورّات المتزامنة بخصوص القدس ومقدّساتها، والتي عرفتها الأيام القليلة الماضية، فقد نشر موقع عمّون الإلكتروني، يوم الأربعاء الماضي، خبرا بثته وكالات أنباء، ويفيد بأن الأردن سلّم وثيقة للولايات المتحدة تتضمن قائمة مطالب، كشف عنها تقرير لقناة 12 العبرية، أهمها نقل مسؤوليات الحرم القدسي الشريف إلى الأوقاف الأردنية، بما فيها الجانب الأمني، حيث لن يسمح للشرطة الإسرائيلية بالوجود في الحرم الشريف، حتى في حالات اندلاع أعمال عنف. ونقل السلطة للوقف الأردني بما يتعلق بتصاريح الزيارة من غير المسلمين، مع طلب تقديم خطي مسبق. كما طالب الأردن، حسب التقرير، بحظر الصلاة لغير المسلمين في الموقع، وتقليص المجموعات غير المسلمة بحيث لا تتعدّى خمسة أشخاص.
وعلى الرغم من أنه لم تتأكّد صحة هذا التقرير، إلا أن بثّه يعكس، في فحواه، الأجواء الحالية للعلاقات الأردنية الإسرائيلية، والتي تفتقد الثقة المتبادلة. ولعل القناة الإسرائيلية أرادت بذلك في مخاطبتها الجمهور الإسرائيلي الإيحاء بأن الأردن “يذهب بعيدا في مطالبه”، وأن هذه المطالب لا تتوقف عند حد، إلى درجة أن تحل قوات شرطة أردنية محل القوات الإسرائيلية في قلب البلدة القديمة. ولطالما أعلن الأردن، في مناسبات وظروف مختلفة سابقة، عدم قبوله فكرة نشر قوات شرطة في الضفة الغربية المحتلة في إطار أي حل، غير أن من الأكيد أن عمّان تشعر بأن الاحتلال قد ذهب بعيدا بإشاعة أجواء صراع ديني مكشوف ومحموم، كما ذهب بعيدا في المساس بالوصاية الهاشمية على الأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية، وفي التنكيل بحرّاس الأقصى والمرابطين فيه وبموظفي الأوقاف، وحتى بالمصلّين في أثناء تأدية صلواتهم، وأن الرعاية العلنية التي تتولاها سلطات الاحتلال لاجتياحات المستوطنين وغلاة المتطرّفين الدينيين اليهود تنطوي على قدرٍ عالٍ من الصلف، في حين أن أحاديث مسؤولين إسرائيليين في هذه الآونة عما يسمونها “حرّية العبادة” في الحرم القدسي، إنما يثير قلقا كبيرا عن نوايا بدأت تظهر إلى العلن باستباحة الحرم القدسي، ووضع اليد عليه باعتباره وقفاً إسلامياً، وأحد أقدس مقدّسات 1,8 مليار مسلم في فلسطين والعالم العربي والعالم.