مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذي خط فيه باسم الرئيس «جمال عبدالناصر» مطلع ستينيات القرن الماضي في رسالة شهيرة إلى الرئيس الأمريكى «جون كينيدى»: «من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق.. ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه فيما يملك وفيما يستحق».. استقرت تلك العبارة فى ذاكرة التاريخ العربى كله.. وبدت إشارة بليغة لوعد «بلفور»، الذى مهد لتأسيس الدولة العبرية في فلسطين المحتلة.
- ولكن ذاكرة فلسطين تسجل ما حدث وجرى من تحركات وتآمرات سبقت كثيرا وعد بلفور، وكانت تتربص بالقدس والأقصى.
قبل 113 عاما، وفي 27 أبريل/ نيسان 1909 نجحت المؤامرة الأوروبية في تشويه صورة سلطان تركيا «السلطان عبد الحميد الثاني»، ثم خلعه بانقلاب أقصاه عن الحكم، بسبب إصراره على رفض المطالب الأوروبية ببيع فلسطين ليهود العالم، وكان السلطان قد أصدر في العام 1900 أمر ينص على عدم السماح لليهود بالإقامة في فلسطين أكثر من 3 أشهر.. ويرى مؤرخون أن السلطان كان يخشى التآمر والحرب على الأقصى، الهدف الديني من مشروع تأسيس الدولة العبرية على تراب فلسطين.
تحرك بريطاني لإقناع السلطان بفتح أبواب فلسطين أمام اليهود
ويتفق المؤرخون، أن المؤامرة كانت أوضح ـ وربما أوقح ـ في مجريات الأحداث باتجاه فتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود.. وكان ذلك هو المنطق الذي تبناه رئيس وزراء بريطانيا، اللورد «بالمرستون»، حين كتب إلى سفيره في إسطنبول، اللورد «بونسونبي» في 11 أغسطس/ آب 1840 بتعليمات جاء فيها ما يلي: «عليك أن تقنع السلطان وحاشيته بأن الحكومة الإنجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسبا لفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود إليها، لقد حان الوقت لكي يعود هذا الشعب المشرد إلى أرضه التاريخية، إن السلطان وحاشيته قد لا يقتنعان بهذا المنطق الأخلاقي، ولذلك عليك أن تجعلهما يدركان أن اليهود في العالم يملكون ثروات ضخمة ولديهم كنوز من المال وفيرة، وإذا حصلوا على حماية السلطان فسوف يكون في مقدوره أن يقنعهم بمساعدته، وهم بلا شك سوف يقدّرون عطفه عليهم».
إغراءات مادية لمنح اليهود حق الاستيطان في فلسطين
ويضيف اللورد «بالمرستون»: «من المعروف جيدا أن يهود أوروبا يمتلكون ثروات كبيرة، ومن المؤكد أن أي قطر يختاره اليهود ليستوطنوا فيه سوف يحصل على فوائد عظيمة من ثروات هؤلاء اليهود، فإذا عاد الشعب اليهودي تحت حماية ومباركة السلطان إلى فلسطين فسوف يكون ذلك مصدر ثراء له، كما أنه سوف يكون حائلا بين «محمد علي» أو أي شخص آخر يخلفه وبين تحقيق خطته الشريرة في الجمع بين مصر وسوريا وتهديد الدولة العليا، وحتى إذا لم يؤد هذا التشجيع الذي يمنحه السلطان لليهود إلى استيطان أعداد كبيرة منهم في فلسطين، فإن إصدار قانون يعطيهم حق الاستيطان سوف يعمل على نشر روح من الصداقة تجاه السلطان بين جميع يهود أوروبا، وسوف ترى الحكومة التركية على الفور أنها كسبت أصدقاء أقوياء ومفيدين، بقانون واحد من هذا النوع».
- ثم جاء دور «ثيودور هرتزل» والذي توجه إلى صميم الهدف مباشرة، وهو يرى أن الظروف المستجدة تقتضي الإسراع في تنفيذ المشروع.. وكانت خطة «هيرتزل» أن يشتري فلسطين من السلطان، وتلك خطة تكشفها يوميات «هرتزل» وتشرح مقاصده فيها بوضوح.
20 مليون جنيه استرليني ثمن بيع فلسطين!
وبتاريخ 15 يونيو/ حزيران 1896 يكتب «هيرتزل» في يومياته قائلا: « سوف نقدم للسلطان عبد الحميد 20 مليون جنيه إسترليني لإصلاح الأوضاع المالية المتدهورة في تركيا، منها مليونان بدل فلسطين، والباقي وقدره 18 مليونا يمكن إستخدامه في تحرير تركيا من الحماية الأوروبية وشراء سندات ديونها».. ورغم كل إغراءات ومحاولات «هرتزل» والمساعي البريطانية الموازية، إلا أن السلطان كان مترددا يخشى من ضغوط إسلامية وعربية يحس تأثيرها ويهمه تفاديها !!»
والسلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 ـ 1909)، كان والده يصفه بـ «الشكاك الصامت»، وتعلم العربية والفارسية ودرس الأدب والتاريخ والموسيقى والعلوم العسكرية والسياسية، وتوفى والده وهو لم يتجاوز الثمانية عشرة من عمره، فصار ولي عهد ثانيا لعمه السلطان عبد العزيز الذي تبوأ كرسي الخلافة العثمانية طيلة 15 عاما، لازمه هو فيها في سياحاته ورحلاته إلى أوروبا ومصر.
عملت أوروبا على إسقاطه
وأطلقوا على السلطان عبد الحميد، لقب «السلطان الأحمر»، ويضاف إلى اسمه أحياناً لقب «غازي».. ويقال إن أوروبا هي التي كانت وراء هذه التسمية حيث لم يكن بالنسبة لها شخصا مرغوبا فيه، وربما لأنه لم يكن من الممكن لأي دولة مهما كان ثقلها في أوروبا أن تقتطع أجزاء من الدولة العثمانية أو البلقان أثناء خلافته، ولذلك فقد عملت أوروبا على إسقاطه.
اللوبي اليهودي يتآمر على السلطان
لذلك فقد دأب اللوبي اليهودي على تشويه صورة السلطان، بل وتسلل بعضهم داخل جمعية «الاتحاد والترقي» التي أسقطت السلطان عبد الحميد وباعتباره السلطان الأحمر المستبد وكاره للعلم والمثقفين.
ويقول السلطان عبد الحميد في مذكراته ردا على موجات الاتهامات: « أعمالي تدل على أني إحترمت العقل والعلم، هكذا يكتبون عني دون أدنى خجل أنني كنت عدوا للعقلاء، إنهم لم يقدموا نموذجا واحدا على هذا، لأنني أبحث طول حياتي عن الإنسان العاقل، ولو كنت عدوا للعقل والعلم فهل كنت أفتح جامعة؟ وهل كنت أنشئ المدارس التي تعد الإنسان المثقف مثل مدرسة (ملكية شاهانه)؟ ولو كنت عدوا للعقل والعلم فهل كنت أنشئ لفتياتنا دار المعلمات؟ وعندما أمرت بتدريس الفلسفة في مدرسة «ملكية شاهانه» تمرد الطلاب جميعهم وقالوا: «يريدون أن يجعلونا كفارا»، ولكني أعرف أن الكفر ليس في العلم ولكنه في الجهل، وتمسكت بتدريس الفلسفة ودرسها الطلاب بعد تعديل إسمها من الفلسفة إلى الحكمة..».