تبت ميرال قطنية في صحيفة “النهار العربي” اللبنانية، أنه مع بدء الاحتفالات الدينية بموسم المجيء، والتي تتكلل باحتفالات عيد الميلاد المجيد لدى الطوائف المسيحية في الأراضي المقدسة، يتعزز الإيمان بأنه مهما طال الليل فلا بد لنور الميلاد من أن يسطع من جديد، لكن التطورات السياسية والأوضاع الأمنية التي تشهدها الأراضي المقدسة عامةً.
ومدينة القدس خاصةً، تنذر بدق أجراس الخطر الذي يستهدف الوجود المسيحي بالمجمل، بعد بيان مشترك أصدره البطاركة رؤساء الكنائس المسيحية في المدينة المقدسة، وفيه “أن المسيحيين أصبحوا مهددين بالطرد من جانب الجماعات الإسرائيلية المتطرفة، تحديداً المستوطنين، إذ إنها تهدف الى تقليص الوجود المسيحي”.
وشرح البيان أن المجتمع المسيحي بمجمله مهدد بالطرد، واتهم البيان الجماعات المتطرفة بتدنيس المواقع المقدسة وتخريبها، بما في ذلك الكنائس، فيما تم ارتكاب جرائم ضد الرهبان والمصلين.
ودعا البيان الى “حوار عاجل مع السلطات الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية التي سبق وأعلنت التزامها حماية الحرية الدينية من أجل الحفاظ على الوجود والبقاء”.
وقد نشرت الصحف البريطانية البيان بشكل واسع النطاق، كما نشرت صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية مقالة كتبها حارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون، قال فيه “إن وجودنا محفوف بالمخاطر ومستقبلنا في خطر”.
وأشار باتون الى أنه في السنوات الأخيرة، أصبحت حياة العديد من المسيحيين لا تطاق، بعد تعرّضهم لاعتداءات من الجماعات الراديكالية ذات الأيديولوجيات المتطرفة”، وتابع باتون: “يبدو أن هدفهم هو تحرير البلدة القديمة في القدس من الوجود المسيحي”.
رئيس أساقفة كانتربري البريطاني جاستن ويلبي نشر مقالة مشتركة كتبها مع رئيس أساقفة القدس المطران الأنغليكاني حسام نعوم في صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية، قالا فيه إن هناك “محاولة منسقة لترويع المسيحيين وطردهم”، وأوضح الأسقفان أن الزيادة في مجتمعات المستوطنين، الى جانب القيود المفروضة على الحركة بسبب جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل، عمّقت من عزلة القرى المسيحية، وأن هناك تياراً واسعاً من المسيحيين الفلسطينيين الذين يسعون وراء الحياة وسبل العيش في مكان آخر”، بينما غرّد ويلبي على حساب أسقف كانتربري الرسمي على موقع “تويتر”، ووصف البيان بأنه “إنذار وتحذير مبكر حول مستقبل المسيحيين في الأراضي المقدسة”.
وأثار بيان البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس ومقالات الأساقفة في الصحف البريطانية احتجاجات في مجلس نواب يهود بريطانيا، وكتبت رئيسة المجلس ماري فان دير زيل رسالة الى ويلبي، أعربت فيها “عن أسفها الشديد لملاحظاته المنشورة”، ودعته الى عقد اجتماع لمناقشة الجوانب (المقلقة للغاية) في مقالته، بحسب ما ذكرت صحيفة “جويش كرونيكل”.
وأشارت فان دير زيل الى أن الهجمات على المجتمع المسيحي غير مقبولة، وتساءلت عن أسباب تدهور المجتمع المسيحي، مشددة على أن “هناك أسباباً أكثر تعقيداً من تلك التي أثيرت في المقالة، والتي يبدو أنها سبب هذا التراجع”.
وذكرت صحيفة “الفاتيكان نيوز” أن المنظمات المسيحية في جميع أنحاء العالم ردت على البيان برسائل دعم، كما قدم مجلس الكنائس العالمي الذي يضم 349 كنيسة دعمه.
وصرح الأمين العام بالإنابة القس أيوان سوكا في بيان أنه يجب احترام المسيحيين في الأراضي المقدسة، واحترامهم كجزء من تراث المنطقة ومستقبلها”.
يذكر أنه سبق لبطاركة الكنائس المسيحية ورؤسائها في القدس أن وجهوا نداءً الى العالم، في أعقاب الحوادث التي مرت بها الأراضي المقدسة في أيار (مايو) الماضي، والتصعيد الأخير على قطاع غزة.
ولفت البطاركة يومها الى تنامي قوة المتطرفين الإسرائيليين الذين يستهدفون المسيحيين والمسلمين على حد سواء، لافتين الى أن هذا التطرف وصل الى درجة تنفيذ اعتداءات لفظية وجسدية متكررة ضد الأماكن المقدسة ورجال الدين، من دون أن تتم ملاحقتهم أو معاقبتهم قانونياً، منها اعتداء وثّقته كاميرات المراقبة على رجلي دين أرمن بالقرب من مدخل الدير، والاعتداء على المدرسة اللاهوتية التابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس في جبل صهيون، وإحراق كنيسة الجثمانية، ولكثرة هذه الاعتداءات أصبحت للأسف جزءاً من الحياة اليومية للفلسطينيين العرب المسيحيين.
وأوضح رؤساء الكنائس أن رجال الدين المسيحيين يعملون من أجل العدل والسلام والأمن في الأراضي المقدسة، لكن اهتمامهم الأكبر هو لحماية مسيحيي الأراضي المقدسة، وعلى رأسها مدينة القدس، فالكنيسة تقف على الدوام وبقوة ضد العنف، لكن الأمور تتغير تغيراً دراماتيكياً، وأصبحت الكنائس تقف وجهاً لوجه ضد الجماعات الإسرائيلية المتطرفة، التي تعمل عملاً منظماً ومخططاً له لإخراج المقدسيين من مدينتهم، سواء من خلال الاستيلاء على أملاك الكنائس، وخصوصاً عقارات باب الخليل، التي تشكل المدخل الرئيسي لحجاج القدس المسيحيين، أو في الشيخ جراح أو في سلوان، حيث يحاول المستوطنون إجبار السكان الأصليين على النزوح بالقوة من منازلهم.
وللوقوف على التطورات بعد صدور هذا البيان وللاطلاع على التفاصيل، اتصل “النهار العربي” بالمطران منيب يونان، رئيس الاتحاد اللوثري العالمي الأسبق، للتعقيب على البيان والخطر الذي يستهدف الوجود المسيحي في المدينة المقدسة، فتحدث عن اعتداء تعرض له شخصياً قبل نحو سبع سنوات، بينما كان يمر في منطقة باب الخليل في طريقه الى كنيسة الفادي اللوثرية القريبة من كنيسة القيامة داخل أسوار البلدة القديمة.
يقول المطران يونان إن مستوطناً بصق على الصليب الذي يضعه وبدأ الصراخ “أنت تعبد الأوثان”، وتابع المطران يونان “وبّخته وقلت له من العيب جداً أن تتكلم مع رجل دين بهذه الطريقة، هذه ضمن شهادتنا المسيحية، بصقوا على السيد المسيح قبل أن يستهدفونا، وإذا بصقوا علينا فنحن لسنا أحسن أو أهم شأناً من السيد المسيح، هذه شهادة مسيحية بالنسبة الى صليبي هو فخري، والسيد المسيح هو إلهي ومخلّصي، وقد عانى من المتطرفين ونحن أيضاً نعاني من متطرفين لا يفهمون ولا يفقهون حقيقة الدين، لكن في الوقت نفسه الدين هو محبة الله ومحبة القريب وإعطاء القريب حقه الديني والسياسي والثقافي واللغوي وأن يعيش بكرامته، الله خلقنا على هذه الشاكلة، والقدس هي مدينة التعددية والاختلاف، علمتنا القدس التعددية واحترام الأديان الأخرى وأماكنهم المقدسة لأي دين كان، فالأماكن المقدسة ليست مكاناً للحرب ولا للنزاع ولا للإقصاء هي مكان للتعبد والتقرب الى الله”.
ورأى المطران يونان أن “المتطرفين هنا يحاولون قلب المعادلة وتحويل الصراع السياسي صراعاً دينياً، وعلينا أن نوقفهم، وعلى المسيحيين أن يكون صوتهم عالياً وواضحاً، فالبلدة القديمة مستهدفة، أولاً: من خلال الأملاك الكنسية التي تشمل فندقي الأمبريال والبترا، فإذا تمكن المستوطنون من السيطرة على منطقة باب الخليل، فإن ذلك سيؤثر في دخول كل الحجاج المسيحيين الى كنيسة القيامة، وبالتالي الوجود المسيحي في المدينة، نحن نشعر أن هناك أماكن مسيحية أخرى مستهدفة، وهذا يشكل مصدر قلق، ليس للسكان المسيحيين في تلك المنطقة فحسب، ولكنه يقلقنا جميعاً، ويجعلنا نتساءل: هل هذه سياسة مخطط لها؟ من المستحيل أن يقوم المستوطنون بذلك من دون تلقي أي دعم”.
وتابع المطران يونان: “ثانياً منطقة باب الجديد الذي تمتلكه الكنائس المسيحية، خلال العام المنصرم نظمت البلدية بطولة الطاولة (شيش بيش)، إضافة الى تنظيم حفلات لمغنين إسرائيليين تزعج السكان المسيحيين في هذه المنطقة، فأرسل بطريرك الروم الأرثوذكس ثيوفيلوس الثالث وحارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون رسائل الى رئيس الدولة والى رئيس البلدية الإسرائيلي موشيه ليئون، ولم يحصلا على أي رد، فشعرا أنهما مهملان ولا اكتراث بمطالبهما، وأن السلطات الإسرائيلية بهذا التصرف تسعى الى إضعاف المسيحيين والسيطرة عليها، علماً أن 90 بالمئة من سكان هذه المنطقة مسيحيون”.
وأوضح المطران يونان أن لدى رؤساء الكنائس شعوراً بأن “هذه سياسة تطفيش وتهجير ممنهجة للسكان، موسيقى صاخبة على مدار يومين متواصلين، الأربعاء والخميس من كل أسبوع، ولهذا السبب قرر رؤساء الكنائس رفع صوتهم، وهذا يعتبر نوعاً من تحديد الوجود، فالامتداد المسيحي المقدسي أصبح اليوم أقل من 2 في المئة في مدينة القدس، وامتداد أهل القدس أكبر مع الضفة الغربية منه مع الجليل، فبناتنا وأبناؤنا يتزوجون من أهلنا في الضفة الغربية، والأمر يزداد بوتيرة عالية، وقضية لمّ الشمل أصبحت معوقاً لهذه العائلات الآخذة بالتكوّن.
ورفض إسرائيل منح تصاريح الإقامة لأحد الزوجين يجبر هذه العائلات على السفر والهجرة، لذلك يشعر رؤساء الكنائس أن قضية لمّ الشمل هي تحد للوجود المسيحي في المدينة، والمسيحيون في كل فلسطين أصبحوا أقل من 1 في المئة، ووجودنا المسيحي هو جزء لا يتجزأ من وجودنا العربي المسيحي في القدس وفي فلسطين”.
وختم المطران يونان حديثه بالقول: “كما يتعرض حي الشيخ جراح وسلوان للتهديد بالتهجير، كذلك الأمر بالنسبة الى منطقتي باب الخليل وباب الجديد، هكذا علينا أن ننظر الى الأمر من منظور سياسي لا طائفي، لذلك فإن الحل سياسي أولا وآخراً، وللحفاظ على وجودنا علينا تثبيت أولادنا في وظائف تضمن لهم الاستقرار، وتوفير أماكن للسكن وتسهيل أمورهم المعيشية، بخاصة في قضية لمّ الشمل الحساسة.
أبناؤنا ضحايا سياسة معينة لا تستهدف المسيحيين خاصة، لكنها تستهدف الفلسطينيين عامةً، لكن لأن المسيحيين هم الفئة الأقل فهم يتأثرون بشدة جراء هذه السياسات والمخططات.
ما هي القدس من دون الوجود المسيحي؟ نحن لا نريد كنائس خالية ورؤساء كنائس ورجال دين من دون رعية.
نريد لشعب الكنيسة أن يكون حاضراً ومرتاحاً ويستطيع العيش بكرامة في هذه المدينة مثل أي مواطن آخر، لا حل أمامنا سوى الصمود والبقاء والحضور، لا يمكننا أن نحزم أمتعتنا ونرحل بكل بساطة، عشنا ألفي عام وسنعيش ألفي عام أخرى هنا”.