كتب: أكرم عطا الله
هذا هو تاريخها بصرف النظر عمن يحكمها، فخصوصية شعبها أبعد كثيراً من أن يؤثر به السياسيون لأن «خصوصية أي شعب هي بصمة الطبيعة على طبعه» فقد كانت تلك المنطقة التي نسي الإسرائيلي وهو يمتد على الشريط الساحلي الفلسطيني كله أن يحتلها ليشاء قدرها أن تنتج الثورة المعاصرة، وربما أن خصوصيتها نبعت من التغير الديمغرافي الهائل الذي نشأ إثر النكبة لتتحول إلى خزان اللاجئين بما يفيض عن طاقتها وأكثر من سكانها الأصليين.
منذ الأمس توقفت الفعاليات على الجدار الفاصل وفتح المعبر الذي يربطها بإسرائيل وعادت المنحة القطرية، فقد «أخرجت إسرائيل البقرة من الغرفة» كما رواية الحاخام واليهودي الذي كان يعيش وزوجته وابنته في غرفة واحدة، وحين طلب الأخير استشارة الحاخام أشار له أن يدخل البقرة بعد المَعِزة إلى الغرفة، وبعد إخراجها تنفس اليهودي الصعداء كأن هذا أقصى ما يريد.
هكذا تلاعبت إسرائيل بها قبيل الأعياد عندما صنعت أزمة خوفاً من أزمة أكبر في القدس ستشعل فتيلها اقتحامات المسجد الأقصى خلال المناسبات فقد حصل ذات مرة ووصلت حرائقه لكل المدن الإسرائيلية.
قبيل الأعياد كان هناك سيل من التحذيرات والإنذارات تعلن عنها أجهزة الأمن في اسرائيل، وكما العادة غزة الحاضرة دوماً في كل المعارك.
كانت هناك خشية من تصعيد يستدعيها لإفساد موسم تلك الأعياد التي تتجمع هذا الشهر «رأس السنة ويوم الغفران وعيد العرش» وكلها تحمل دلالات دينية توجب هذا القدر من إغضاب الفلسطينيين في القدس، وغزة التي تعهدت بعدم السماح بتكرار اقتحام الأقصى قد تفعلها في حال استفزازها فهذا «عهد»، ومن هنا كان التفكير بعملية إزاحة تامة وصناعة أزمة تسحب نظام الحكم ممثلاً بحركة حماس باتجاه آخر.
وقد كان عندما صنعت من المنحة القطرية أم الأزمات ليصبح حلها بوساطات تذهب وأخرى تجيء ومفاوضات تستعصي ثم تتفكك عقدها، وينصب كل التفكير على الحدود والضغط والمناورة والتكتيك لاستعادة المنحة ويصبح حل المسألة «المستعصية» أولوية الأولويات، أي أنها ألقت بقنبلة دخانية يغطي غبارها مسرح الجريمة وقد كان.
هكذا تشاغل إسرائيل الفلسطينيين ولا خيار أمامهم إلا ردود فعل يحددها الذي أحدثه الحصار الخانق على القطاع والمستمر منذ أكثر من عقد ونصف العقد، وتدير العلاقة مع تلك المنطقة بنظرية ليبرمان «الرأس فوق الماء» لا أن تحيا ولا أن تموت.
فحين تحيا تبعث في الروح الوطنية نَفَسا جديداً أكثر صلابة وحين تموت فإن شظايا موتها سيطال كل العواصم وكل بلدات اسرائيل.
وهذا ربما يشكل نقطة انطلاق الفلسطينيين بمعرفتهم للسياسات التي تمارس تجاههم وما هي نقاط القوة والضعف.
فقد أضعفوا أنفسهم منذ وقعوا في مصيدة الحكم فأصبحت استحقاقاته عبئاً ثقيلاً فوق طاقتهم وأعادت قلب أولوياتهم بكل ما يحمله من خسارات وأبرزها خسارة الصمت على تسرب التطبيع مقابل المال واستحقاقات الحكم، كان الفلسطينيون أقوى حتى في مواجهة الإقليم قبل أن يتورطوا في حكم أنفسهم تحت الاحتلال.
أدخل الفلسطينيون أنفسهم في نفق تشهد عليه النتائج القائمة والتراجع الفادح في مشروعهم الذي بات يشرف على الغرق، وتزايد بعد خرقهم لمركبهم إثر الصراعات بينهم على الحكم وجدارته، وما زال التنافس بينهم وخوف كل منهم من الآخر مدعاة لمزيد من الضعف والتنازل، فحين يصبح نجاح التجربة أولوية قصوى تختل المعادلة ويصاب البرنامج بالاضطراب وتتشوه ملامح الكفاح الوطني ويصبح الغرق في التفاصيل أكثر أهمية من القضية المركزية؟، فالفروع هنا تنوب عن الجذور ويصبح التوهان هو الأمر الثابت في المعادلة.
في غزة إرادة عالية وفقر مدقع وفيها قال شاعر الفلسطينيين الكبير من الغزل ما لم يقُل في أي مدينة أخرى، لديها قدرة مدهشة على الصمود رغم بؤسها لكن ما يؤخذ عليها عدم قدرتها على إدارة إرادتها بكفاءة فهي سريعة الغضب، تنفعل بسرعة وبطيبة حين يتم المساس بالمشروع الوطني دون أن تفكر إذا كان ذلك مخططاً لاستدراجها أو لاستنزافها أو لحرفها أو لإزاحة اهتمامها وتضليلها، هكذا هي طيبة ـ بسيطة، ما زالت تمارس السياسة ببراءة بعيداً عن السياسة، هنا تكمن مأساتها المزمنة بلا توقف والتي جعلت من خسائرها ما يفوق مكاسبها.
سيناريو اليهودي والحاخام تكرر كثيراً هادفاً إلى القيام بعملية مسخ دماغ لمنطقة أحدثت كل هذا الصداع الدائم لإسرائيل، أخطأ أبناؤها حين تصارعوا فيها ليسهلوا التنكيل بها بهذا الشكل، لا بد من كسر المعادلة بعد كل تلك التجربة الطويلة وبعد تلك المعاناة الطويلة، ويجب أن تمتد المراجعة لتشمل الضفة أيضاً.
الفلسطينيون أمام استعصاء يهدد بتبدد قضيتهم ومجتمعهم عنوانه «ورطة الحكم» الذي تحول إلى ما يشبه اللعنة التي باتت تغطي بسبب الحاجة للمال لتحقيق استحالة إنجاح تجربته تحت الاحتلال على كل الخطايا بما فيها خطايا الإقليم.