لم أسمع يوماً دحلان يتحدث عن د. عبد العزيز الرنتيسي خارج دائرة التقدير والاحترام والكلم الطيب، فالرجل تجمعه به علاقات الجوار وروح التآخي التي تجمع أبناء المخيم، فما بالك إذا كان الطرفان قد تعايشا متجاورين في نفس الحارة وتطل بيوتهما على نفس الأزقة التي تصلهما بالشارع، وتأنس ذكرياتهما بمشاهدٍ من ملاعب الطفولة ومدارج الصبا.
وفيما أنا أقرأ مذكرات النائب محمد دحلان، التي لم تُنشر بعد، وقعت عيني على بعضٍ من أسرار تلك العلاقة التي تكشفُ لماذا ظلَّ الاحترام وأدب الخطاب قائماً بين الرجلين، رغم تباين وجهات النظر وحالة الاختلاف التي فرضتها توترات العلاقة بين فتح وحماس عقب توقيع اتفاق أوسلو في أغسطس 1993 وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي سنواتٌ كثر عِجافها، إذ شهدت الكثير من المواجهات والتشكيك والتحريض والتربص مما أدى إلى تصدِّع البناء الداخلي، وإفشال “سياسة الجزرة” التي اتبعها الرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) لاحتواء حركة حماس كشريك سياسي، واللجوء إلى “سياسة العصا” لكبح حالة التمرد والاستعصاء وإظهار المغالبة التي لجأت إليها حركة حماس، من خلال تحريك ذراعها العسكري للقيام بعملياته الاستشهادية، حتى لا تقوم لاتفاقية أوسلو المشؤومة قائمة، وتعجز السلطة وحركة فتح عن الخروج من كبوتها.
لا شكَّ أنَّ حركة حماس كانت تتمتع بدعم شعبي وفصائلي كبير في رفضها لاتفاقية أوسلو، ولكنّ ياسر عرفات (رحمه الله) كان يراهن على عنصر الوقت، لتليين مواقف الحركة، وإشراكها معه في مشهد الحكم والسياسة.
في عام 1996، تمَّ اكتشاف (الجهاز السري الخاص) لحركة حماس، وفي أرشيف الجهاز تبين أنَّ هناك مخططات للقيام بعمليات اغتيال لشخصيات من رجالات السلطة، مما أدى إلى توتير العلاقة مع الحركة والقيام بحملة اعتقالات لكوادر هذا الجهاز. وفي نفس العام، وعلى إثر اغتيال الشهيد القائد يحي عياش، قامت كتائب القسَّام بالرد بأربعة عمليات استشهادية، أوقعت الكثير من القتلى والجرحى بين الإسرائيليين، وقد جاءت هذه العمليات في توقيت حساس، إذ كانت السلطة تنتظر فيه تسلمها مناطق جديدة وتوسعة انتشارها في الخليل، مما أعطى إسرائيل الذريعة للتنصل من التزامها مع الرئيس عرفات بتنفيذ ذلك.
وبناءً على هذه المجريات، وما أعقبها من ضغوطات أمريكية وإسرائيلية على الرئيس عرفات، وجد الرجل نفسه محاصراً بين الصخرة والجدار، ومطلوباً منه تغيير نهجه، وتبني سياسة العصاالغليظة، والتي أنيط بجهاز الأمن الوقائي الذي كان يترأسه العقيد محمد دحلان القيام بتنفيذها، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة بينه وبين حركة حماس، وتصاعد لغة الاتهام والعداء بمفردات قاسية طالت كلّ طرف من قبل الطرف الآخر.
وفي سياق تجاوز سلبيات الماضي، والبحث عن مواقف وإضاءات في سماء العلاقة مع دحلان والتيار الذي يمثله، فإنَّ المشهد لا يحلو من ارتقاء رؤيتنا باتجاه النصف المملوء من الكأس، والذي أوردت المذكرات بعضاً منه في فصل “أمي التي كانت أمّاً أخرى للشهيد الرنتيسي”، حيث يتحدث فيه الأخ أبو فادي قائلاً: وإن نسيت، فلا أنسى من مناقب أمي، موقفها من عبد العزيز الرنتيسي؛ ابن أقرب جيراننا (الباب في وجه الباب)، فقد عشنا معاً كشقيقين، لكننا في مرحلة الصدام مع حماس بعد عودتنا إلى غزة، واجهنا معاً -على مستوى علاقتنا- مأزقاً، إذ أصدر الرئيس عرفات قراراً باعتقال عدد كبير من قادة حماس، ونفذت الأمر الذي صدر لي بتوقيعه، لكنني امتنعت عن اعتقال عبد العزيز (رحمه الله).
وبالطبع، سرعان ما تطوع كثيرون لإبلاغ الرئيس أن عبد العزيز لم يعتقل.. كان الرجل (رحمه الله) ذا لغة حادة في التعبير عن رأيه، على مسمعٍ من الرأي العام، بمعنى أنه لم يكن من النوع الذي يمكن التغاضي عنه. لذا؛ كان أبو عمّار في كلِّ اجتماع للمجلس العسكري يسأل: “هل اعتقلتم عبد العزيز الرنتيسي؟”. فيرد الزملاء: “محمد دحلان هو المكلف بمتابعة الموضوع”. ومع استمرار ضغط وإلحاح الرئيس في كلِّ اجتماع، اضطرّ زملائي للقول: “سيادة الرئيس يبدو أنَّ دحلان لا يريد اعتقاله”.. فوجئ الرئيس حين علم أنَّ التأخير في اعتقال الرنتيسي يعود إلى امتناعي تحديداً عن تنفيذ الأمر. سألني: “إيه يا ابني أنت خايف من حماس”. أجبت: “لا أبداً، لا أخاف من حماس أو غيرها، أنا حقيقةً خائف من أم حسن”!!
شرحت الموقف للرئيس، واستمع اليَّ مندهشاً ومستفسراً: “هل أنت جاد فيما تقول”. أجبته: “نعم؛ لو اعتقلته فسوف تفضحني أمي، وهي في كلِّ يوم تتصل بي، وتحذرني قائلةً: لو فعلت هذا فسوف أتبرأ منك”!!
لم تكن والدتي تعرف كيف تستخدم الهاتف الأرضي، ولأنها كانت بحاجة لتذكيري كلَّ يوم بأن امتنع عن اعتقال الرنتيسي، ولكي تعود لتكرر تحذيرها؛ كانت تطلب في كلِّ مرة من أي شخص تصادفه أن يدير لها قرص الهاتف، ليطلبني ثم يعطيها السماعة. لقد كانت مربيِّة عبد العزيز، وهو يتعامل معها كأمه، إذ عاش وهو طفل في بيتنا. وحين انتسب لجماعة “الإخوان المسلمين” كنتُ قد أصبحت ضمن حركة فتح، لكنَّ ذلك لم يزعزع قناعتي بإخوَّته، أو يدفعني إلى شعورٍ سلبي تجاهه. حين رويت القصة للرئيس خلال اجتماع المجلس العسكري، صمت ولم يعلق، ثم تطلَّع نحوي وقال: “اليوم سأكون عندك على العشاء”!
أخبرتُ الحاجة أم حسن أنَّ عرفات سيكون الليلة على العشاء في منزلي.. كان أبو عمار يكنّ محبة خاصة لأميِّ، وكلما التقاها يقبّلها من رأسها ويديها. لم يتحدث الرئيس في تلك الليلة عن اعتقال الرنتيسي، حيث تجاهل الموضوع كلياً. لكنها هي التي بادرته قائلة: “أه يا خوي. انت بدك تحبس عبد العزيز.. هذا مثل ابني كيف تحبسه؟”.
سمع أبو عمار عتاب أمي واحتجاجها، وقال بروحه الظريفة المرحة: “مش أنا يا حاجة، دحلان هو الذي يريد اعتقاله”.
كان الرنتيسي رجلاً شجاعاً ومخلصاً لـ “حماس” ووطنياً بحق. وكانت القواسم المشتركة بيننا كثيرة ومهمة. ولعل أخر اتفاق بيني وبينه بحضور الرئيس عرفات، هو حل كتائب القسام، ودمجها في قوات الأمن الوطني، ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية. وبناء على ذلك، عندما فرغنا في اللقاءات الأولى من وضع هيكل إطاري للاتفاق، طلبتُ الرئيس هاتفياً وتحدث معه د. عبد العزيز مطولاً. بعد أسبوع فقط، أصدر شارون قراره بقتل الرنتيسي.
أعتقد اليوم، كما بالأمس، أن هذا الاتفاق كان أهم اتفاق بيني وبين حركة حماس، ولو أنَّ الظروف والأحداث سارت في طريق آخر، وجرى الالتزام بما اتفقنا عليه، لما حدثت مأساة الانقسام الفلسطيني. فعندما اغتالت إسرائيل إسماعيل أبو شنب (رحمه الله)، كانت تعرف جيداً أنَّ الرجل لم يكن له أيّ علاقة بأيّ نوع من أنواع العمل العسكري. لقد قتله شارون دون أي مقدمات، فقط لأنه كان مع الوحدة الوطنية الفلسطينية. كان أبو شنب والرنتيسي وأحمد ياسين (رحمهما الله)، هم قادة حماس الكبار ورجالها الأقوياء. ولهذا جاء اغتيالهم بأوامر من شارون، وكان سبب شارون الأساسي، هو أنَّ هؤلاء كانوا أبعد نظراً ويريدون الوحدة الوطنية.
وبكلِّ أسف أقول، إنَّ اتصالاتنا واتفاقاتنا كانت مرصودة إسرائيلياً، وكان جيش الاحتلال ومخابراته، ومعظمهم من الأشد تطرفاً، يعلمون أننا اتفقنا مع إسماعيل أبي شنب والرنتيسي وأحمد ياسين على المشاركة في المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطيني، المُزمع انعقاده. ولهذا جاء التعجيل بقتلهم حتى لا تتحقق وحدتنا الفلسطينية، أو تستوي على سوقها.
حقيقةً، وأنا أقرأ هذه المذكرات التي لم تنشر بعد، أشعر بأنَّ هناك كمَّاً من من الأخطاء التي ارتكبنها جميعاً كفصائل فلسطينية، حيث كان الكثير منَّا يمشي مُكبَّاً على وجهه يتخبط بعيداً، وفي حالة عجزٍ عن رؤية ما يمكن أن يجمعنا على صراط مستقيم.
لقد حركت مشاعري هذه الذكريات، وردتني إلى ما كنت دائماً أردده، قائلاً: إنَّ ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرِّقنا، ولكننا نحتاج إلى حكمة الرجل الرشيد، الذي ما زلنا بانتظار ظهوره ليأخذ بأيدينا، ويجمعنا على كلمة سواء.
• هذه الصفحات من كتابي القادم (رغم الخصومة.. دحلان كما عرفته).