في الربع الأخير من شهر يوليو الماضي، ظهر الدبلوماسي الألماني سفين كون ڤون بورغسدورف بلباس رياضي محلقاً لبضع دقائق في سماء غزة بطائرة مظلية، مطالباً بـ” الحرية للقطاع” ولفت الأنظار للقيود الإسرائيلية المفروضة عليه لحظات، وبدأ السفير في التجديف في بحر غزة بقارب رياضي خفيف، قبل أن ينضم لمجموعة من الشباب للعب كرة القدم الشاطئية.
ما إن عاد بورغسدورف للضفة الغربية حتى كان بانتظاره رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس ليقلده وسام القدس، أرفع تكريم فلسطيني، للثناء على ما قدمه لفلسطين في فترة خدمته.
“دبلوماسي استثنائي” هو أحد الأوصاف المتكررة في النخب الفلسطينية لسڤين، لكن في الحكومة الإسرائيلية، الشعور هو نقيض ذلك تماماً، فالسفير كان هدفاً لموجات انتقاد عنيفة ومتكررة، آخرها كان بسبب إدخاله تلك الطائرة المظلية الخفيفة إلى غزة وتحليقه في سمائها دون إذن من السلطات الإسرائيلية.
وزارة الخارجية الإسرائيلية وصفت تلك الخطوة “بالعمل الاستفزازي” ودانت السفير بعبارات قاسية في بيان قالت فيه “نسي الدبلوماسي الأوروبي منذ فترة طويلة أنه يمثل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. إنه يواصل تمثيل الرواية الفلسطينية وهو أداة دعائية في أيدي المنظمات الإرهابية التي تسيطر على غزة”.
بلينكس حاور السفير سڤين كون خلال الأسبوع الأخير من شهر يوليو للوقوف على كواليس تلك الحادثة والحديث عن تجربته الشخصية في الأراضي الفلسطينية وما شاهده خلال فترة خدمته.
نشاط استثنائي في الميدان
عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي مخيم جنين خلال شهر يوليو، كان سڤين أول الدبلوماسيين الواصلين إلى المنطقة لإدانة العنف، وعندما حاول المستوطنون طرد عائلة صب اللبن من منزلهم في القدس، سارع السفير لزيارتهم وتأكيده على رفض تلك السياسات الإسرائيلية.
وبعد إحراق المستوطنين قرية ترمسعيا في شهر يونيو، توجه بورغسدورف للمنطقة مصطحباً معه 20 سفيرا آخرين لتقديم العزاء والتنديد بعنف المستوطنين، وكذلك فعل بعد إحراق المستوطنين قرية حوارة شهر فبراير الماضي.
وفي كل مرة تسعى فيها السلطات الإسرائيلية هدم منازل وتهجير الفلسطينيين، تجد السفير الأوروبي مع تلك العائلات سواء في الشيخ جراح، أو مسافر يطا، أو الخان الأحمر، أو سلوان، أو بطن الهوى، وغيرها من القرى.
وفي مرة، أعلن الجيش الإسرائيلي منزل الناشط الفلسطيني الشهير، عيسى عمرو، منطقة عسكرية مغلقة، فما كان من السفير الأوروبي إلا أن توجه لمنزل عيسى رفقة سفراء آخرين وإبداء الدعم لأنشطته الحقوقية.
مثل هذه الأنشطة الميدانية أكسبت سڤين شعبية بين النخب الفلسطينية السياسية والحقوقية، لكنها عرّضته في الوقت نفسه لموجات انتقاد وسخط حكومي إسرائيلي كبير، وضغوط عالية من مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل للتخفيف من ظهوره، بحسب أربعة مصادر دبلوماسية تحدثوا إلى بلينكس بشكل منفصل.
لكن السفير الأوروبي لا يرى في الأمر أي شيء استثنائي، يقول “لم تكن شجاعة مني أن أفعل ذلك، كنت أنفذ مهمتي”، يضيف في الحوار “أرى أن الدبلوماسية في القرن الواحد والعشرين لا يجب أن تكون مقتصرة على محادثات بجوار المدفأة بين وزيرين أو اثنين من كبار الدبلوماسيين مع سيجار وكأس من الويسكي، يجب أن تهتم بكسب قلوب وعقول الناس، طالما تمثّل بلدك على أساس يتوافق مع القانون الدولي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”.
الخوف يمنع الدبلوماسيين من التحدث
سڤين لا يُخفي أن ما يمنع أقرانه الدبلوماسيين الغربيين من التحدث بجرأة أو الاعتراض علناً على السياسات الإسرائيلية هو الخوف من العواقب على مستقبلهم المهني.
بورغسدورف روى لبلينكس عن أحد زملائه الدبلوماسيين، دون تسميته، “التكلفة السياسية للتحدث علانية ضد ممارسات إسرائيل باهظة للغاية، بينما للتجاهل فائدة عظيمة، حتى على الصعيد المهني، لا أحد ينتقدك في تلك الحالة”. ويضيف السفير الأوروبي بأن النتيجة هي “إغلاق فمك، ولكن في نفس الوقت، أنت تخالف السياسة التي يتم إرسالك لتمثيلها”.
الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان اعترف في مرة بأنه “إذا أراد دبلوماسي أن يصبح سفيراً، فإنه لن يذكر علناً أن المستوطنات الإسرائيلية تقف عقبة في طريق السلام، رغم أن هذه هي السياسة الأميركية الفعلية”.
عواقب انتقاد إسرائيل علناً في الدول الغربية كبيرة لمن يحلمون بوظائف دبلوماسية أو مناصب رفيعة في الدولة، خصوصا في الولايات المتحدة أو ألمانيا. ففي شهر يناير الماضي، عطّل الكونغرس الأميركي مرشحة الرئيس جو بايدن لمنصب سفيرة حقوق الإنسان بسبب انتقادها للمستوطنات الإسرائيلية.
أما سڤين، فيبدو أنه لا يخشى عواقب ما يقول، ولعل أحد الأسباب التي تساعده على ذلك هو اقترابه من التقاعد عن مسيرته الدبلوماسية التي استمرت لنحو ثلاثين عاما تنقّل فيها بين كوبا، وموزمبيق، وجنوب السودان، وهاييتي، وأميركا، وبلجيكا، وسلوفاكيا.
إسرائيل وسياسة الضغط
في العام الماضي، انفجرت موجة من الغضب ضد ممثل الاتحاد الأوروبي بعد تصريحه بأن السياسات الإسرائيلية تدفع بعض الفلسطينيين لاستخدام العنف ضد إسرائيل، وهو ما اُعتبر “تبريراً للإرهاب”.
في حديثه معنا، يشرح السفير الأوروبي أن هناك فارقا بين التبرير والتفسير “لا يوجد أي مبرر على الإطلاق لأي اعتداء ضد الأبرياء”.
بورغسدورف حاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية والقانون الدولي من جامعة فرايبورغ بألمانيا، ثم حصل على درجة الدراسات العليا في دراسات التنمية من معهد التنمية الألماني، DIE في برلين، ويطمح للعودة للتدريس الجامعي بعد تقاعده من مهنته الدبلوماسية. لذلك يقدم نفسه أحيانا كخبير في العلوم السياسية.
يشرح السفير “حين يدمر الإسرائيليون المنزل الذي تعيش فيه طوال حياتك، لأن ابن عمك مشتبه بكونه إرهابيا يقيم هناك، لذلك لن أندهش من أي فعل رد فعل”.
يشرح “تعريف الأعمال الإرهابية بموجب القانون الإسرائيلي غامضة وواسعة النطاق، ولا تتوافق مع الطريقة التي نرى بها الإرهاب في الاتحاد الأوروبي. حيث يمكن أن يُحكم في إسرائيل على أي طفل يرمي حجراً بالحبس لسنوات”.
يضيف سڤين “ما لم يتغير هذا، وتتوقف سياسة توسيع المستوطنات، وعنف المستوطنين، والاستخدام المفرط للقوة، وهدم المنازل، ستزيد الهجمات الانتقامية والمزيد من التطرف في الجانب الفلسطيني”.
مواقف صعبة ومؤلمة
في جنازة الصحافية شيرين أبو عاقلة، وقف السفير الأوروبي للتوسط بين الجماهير الفلسطينية التي أرادت حمل النعش من الكنيسة حتى جبل صهيون في القدس الشرقية، وبين الشرطة الإسرائيلية التي أصرت على نقل الجثمان بصمت في سيارة للمدفن لتجنب تجمهر الفلسطينيين.
انتهى الأمر باعتداء الشرطة الإسرائيلية على الجمهور الفلسطيني بالضرب بالهراوات، إلى أن أوشك النعش على السقوط والتحطم. كان هذا أحد المواقف التي أثرت في سڤين كون بعمق، يتذكر “كنت هناك، وأصابني ذلك بالحزن والذهول والإحباط”.
المواقف الأصعب التي مرت عليه في خدمته يلخصها بالقول “عندما أقدّم التعازي للآباء الذين فقدوا أبنائهم أو بناتهم. من المفجع للقلب أن أذهب إلى هناك”.
يشرح بورغسدورف “تأثرت كثيرا عندما ذهبت لعائلة نزار بنات بعد أن قتله أفراد أمن السلطة الفلسطينية، وكنت أحمل طفله الذي يبلغ ثلاثة أشهر بين ذراعي. أجل، تبقى هذه الأشياء معك”.
الحكومة الإسرائيلية تحرص ألا يمرّ الدبلوماسيون الغربيون بتجربة حياة الفلسطينيين اليومية وأن تعاملهم بأفضلية، فسفير الاتحاد الأوروبي مثلاً، والذي يسكن في القدس الشرقية، يمر إلى رام الله من خلال “حاجز الجيب” شمالي غرب القدس على الطريق السريع بمركبته دون انتظار. بينما يعبر معظم الفلسطينيين من حواجز قلنديا مشياً على الأقدام في طوابير طويلة رغم حصولهم على تصاريح أمنية مسبقة للخروج أو الدخول.
“تخيل امرأة تريد الذهاب إلى مستشفى قريب، ولكنها لا تستطيع ذلك لأن المستشفى في منطقة لا يُسمح بدخولها، هذا يفسّر القليل من الإذلال اليومي الذي يعاني منه الفلسطينيون، وما لم تغير إسرائيل بشكل جذري كيفية تعاملها مع الفلسطينيين، فإنهم سيخلقون الكراهية لدى الفلسطينيين”.
لحظات إيجابية في المقابل
بورغسدورف حرص أيضاً ألا يتذكر فقط اللحظات المؤلمة خلال فترة خدمته وأن يضيف جزءاً من المواقف الإيجابية التي عاصرها. وكان لغزة النصيب الأكبر من تلك اللحظات.
“عندما سُئلت عن سكان غزة، قلت إن هؤلاء هم الأكثر إثارة للإعجاب لأنهم يصنعون الكثير من القليل بين أيديهم. عندما أقابل شبابا حالمين من غزة، أريد أن أقدم لهم ردوداً إيجابية لأجعلهم يشعرون بالقوة ليؤمنوا بمستقبلهم”.
يشرح سڤين “بسبب وضع غزة، فإنني مندهش من مقدار الإبداع والأمل الذي لا يزال قائماً خاصة بين الشباب. أنا منخرط جدا في غزة لأن هذا هو المكان في فلسطين الذي يحتوي على معظم الإمكانات الجغرافية والإبداع البشري”.
حصار غزة أصعب من حصار كوبا
قبل نحو عقدين من الزمن، انتقل سڤين لهاڤانا عاصمة كوبا سفيراً للاتحاد الأوروبي “الولايات المتحدة الأميركية تفرض حصاراً اقتصادياً وعسكرياً على كوبا منذ ستينيات القرن الماضي، ما يجعله الحصار الأطول في التاريخ الحديث”. لكن بورغسدورف يرى أن “حصار غزة أكثر قسوة وصرامة من الحصار الكوبي”.
“على الرغم من إدعاء إسرائيل أنها ليست القوة المحتلة في غزة، لكنها هي كذلك بالفعل، والقانون الدولي واضح. تسيطر إسرائيل على حدود غزة البحرية والجوية بنسبة 100٪، وكل ما يدخل أو يخرج، سواء كان شخصا أو سلعة أو خدمة، تتحكم بها. وعندما يتعلق الأمر بمعبر رفح، فإن مصر تسيطر عليه، لكن إسرائيل ترصد ما يدخل منه أحياناً، لذا فهي سيطرة كاملة”.
يضيف السفير “لا يمكن قول هذا عن الحظر المفروض على كوبا، لأن معظم دول العالم لا تقبل هذا الحظر، وبالتأكيد ليس الاتحاد الأوروبي، نحن كنا نتاجر مع كوبا ونستثمر ولدينا سائحون هناك، الحصار كان مشكلة للتنمية الاقتصادية الكوبية، ولخلق مجتمع أكثر انفتاحا. لكن في واقع الأمر، ساعد الحظر الأميركي على كوبا نظام كاسترو على البقاء في السلطة لأنه جعل الجميع يلتفون حوله”.
يقارن السفير “لم يسبب حصار كوبا نفس المشقة التي يسببها الإغلاق على أهالي غزة، أحتاج لثلاث موافقات كدبلوماسي لأتمكن من الدخول إلى هناك: موافقة السلطة الفلسطينية، والأهم من ذلك موافقة حماس، والأهم من ذلك بكثير موافقة القائد العسكري الإسرائيلي. والوضع أسوأ من ذلك بالنسبة لأي مواطن فلسطيني”.
استفزاز الطائرة الخفيفة
بحسب مصدر دبلوماسي في بعثة الاتحاد الأوروبي تحدث مع بلينكس، غضب الإسرائيليون من إدخال سڤين طائرة مظلية شخصية في حقائبه الدبلوماسية أثناء زيارته الختامية إلى غزة دون طلب إذن مسبق، لأن إسرائيل تحظر دخول تلك الأدوات الرياضية لغزة. في الوقت نفسه، يوضح المصدر بأنه لم يكن من الممكن للسلطات الإسرائيلية القبول بإدخال تلك الطائرة المظلية إذا طلب السفير إذناً مسبقاً.
أما سڤين، فقد أخبر بلينكس بأنه كدبلوماسي، يحق له “إدخال معدات رياضية بموجب اتفاقيات فيينا الخاصة بالحصانة الدبلوماسية”، و”ليس من المفترض أن أصرّح بما أستخدمه كغرض شخصي”.
يضيف السفير بأن ذلك “كان نشاطا ترفيهيا خاصا، ولم يعرض السلامة العامة للخطر. وتحققت من السلطات المحلية وكنت محاطاً بهم، ولم أخترق المجال الجوي. كنت أطير ببطء فوق تلة أقل ارتفاعا من المباني المجاورة لها”.
يضيف “إسرائيل في بيانها لم تهاجمني على ذلك، لكنهم اعتبروا أن هذا العمل استفزازي”.
السفير بورغسدورف أشار إلى أنه عادة ما يقوم بالطيران المظلي الخفيف داخل إسرائيل “أسير في شمال هرتسليا على الساحل الإسرائيلي، وحاولت مرة واحدة أيضا الطيران في المنطقة C على منحدرات البحر الميت”. لكن رسالتي من الطيران في غزة كانت “التذكير بفرص ازدهار القطاع في حال رفع الحصار عنه. هناك بالطبع دراما ويأس وإحباط وفقر وتطرف، لكن غزة لديها الكثير لتقدمه”.
يختتم سڤين حديثه قائلاً “من حق كل فلسطيني أن يفعل الشيء نفسه الذي يفعله أو يستطيع كل إسرائيلي فعله على بعد 10 كيلومترات من حدوده، الأمر كله يتعلق بالمساواة في الحقوق”.