يبدو أن مسيرات العودة على حدود قطاع غزة خرجت عن أهدافها ومنطلقاتها الوطنية كما تم تحديدها عندما تم الإعلان عنها لأول مرة عام 2018 كتحرك شعبي فلسطيني على كافة المناطق الحدودية في كافة الأراضي الفلسطينية التاريخية وفي بعض المناطق الأخرى في العالم والمخيمات الفلسطينية وكان ذلك في 30 مارس سنة 2018 الذي يتزامن مع الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض – منذ 1976 والشعب الفلسطيني يحيي يوم الأرض بمسيرات في كل أماكن تواجده- آنذاك قررت الفعاليات الوطنية في الداخل والخارج استمرار المسيرات حتى ذكرى النكبة في الخامس عشر من نفس العام وهو نفسه الموعد المحدد لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
خلال عامين من التصعيد بالمسيرات والارباك الليلي ذكرت وزارة الصحة في غزة “الإحصائية التفصيلية لاعتداء قوات الإحتلال على المواطنين في مسيرات العودة وكسر الحصار السلمية شرق قطاع غزة منذ 30/3/2018 وحتى 14/5/2019.وقالت الصحة ان 305 فلسطينيين استشهدوا وأصيب 17335 فلسطينيا وصلوا للمشافي، موضحة أن من بين الشهداء 59 طفلا و10 إناث و1 مسن”.
مع بدء المسيرات تكثفت الاتصالات والوساطات مع حركة حماس لتخفيف الحصار ووعود بتسهيلات مالية مهمة وتسهيل مرور البضائع والأفراد عبر معبر رفح في تزامن مع الحديث عن هدنة طويلة المدى، وكان لقطر ومصر الدور الرئيس في تنفيذ هذه المهمة حيث قررت قطر في أكتوبر 2018 تقديم مبلغ 150 مليون دولار لحماس وبعد حرب 2021 قررت زيادة الأموال لقطاع غزة والتي وصلت الى 30 مليون دولار شهرياً يتم إدخالها عبر إسرائيل أو تحت إشرافها، كما وعدت مصر بتخصيص نصف مليار دولار لمشاريع في غزة.
كانت المسيرات في بدايتها تأكيداً على وحدة الشعب في كل أماكن تواجده وتمسكه بحق العودة لفتت انتباه العالم الى معاناة الشعب الفلسطيني وحصار غزة ، ولكن فيما بعد انحرفت المسيرات عن هدفها الأول عندما تم توظيفها من حركة حماس وبعض فصائل المقاومة كأداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية ومالية في سياق محاولاتها لكسر الحصار عن القطاع والاعتراف بسلطتها كما أنها أبعدت الأنظار عن المعركة الحقيقية التي تجري في الضفة والقدس، وخصوصا عندما تم تغيير المسمى إلى (مسيرات العودة وكسر الحصار، وفيما بعد أصبحت مسيرات مقتصرة على حدود القطاع يتم تحريكها كلما تأزمت الأوضاع المالية والاقتصادية لحركة حماس وسلطتها، وهذا ما نستشفه من خلال بيان الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار، قبل أيام والذي تم نشره على المواقع الرسمية للحركة وجاء فيه: ” إعادة تجهيز وتأهيل مخيمات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وأكدت الهيئة أنه سيتم بدء العمل الفعلي في مخيمات العودة على حدود غزة اعتباراً من ظهر اليوم الأربعاء”
جاء قرار عودة فعاليات (مسيرات العودة وكسر الحصار) في ظل ضائقة مالية تمر بها حركة حماس وسلطتها واستمرار حصار قطاع غزة، وردا على عدم قدرة الوسطاء على إلزام إسرائيل بتنفيذ الاتفاقيات السابقة ومنها تعهدات تضمنتها اتفاقية الهدنة التي تم توقيعها برعاية مصر وقطر والأمم المتحدة ولم تكن واشنطن في بداية عهد بايدن بعيدة عن الموضوع، حتى مصر لم تلتزم كاملا بتعهداتها بتنفيذ المشاريع التي وعدت بها، أيضا هناك إحجام من الجهات الدولية المانحة عن تقديم مساعدات لقطاع غزة سواء لإعادة إعمار ما دمرته الحرب أو لمشاريع جديدة، في وقت يتزايد فيه سكان القطاع بسرعة وانعدام فرص العمل وحتى فرص السفر للعمل في الخارج.
ولأن المسيرات خرجت عن هدفها الأول وأصبحت أكثر توظيفاً من طرف حماس وبعض فصائل المقاومة في غزة لتحقيق أهداف جزئية لا علاقة لها بحق العودة كما لا يتم التفاعل مع هذه المسيرات في أماكن تواجد الفلسطينيين الأخرى، فمن المتوقع ألا تكون بنفس الزخم والحشد الشعبي الذي كان في العام الأول للمسيرات، وسيكون هناك نكوص عن المشاركة خصوصاً أن محصلة المسيرات الأولى من شهداء وجرحى لم تكن تتناسب مع أي منجز وطني حقيقي، هذا إن كان هناك أي منجز باستثناء مساعدات محدودة ساعدت حماس على الاستمرار بالسلطة حتى اليوم.، وما زال مئات إن لم يكن الآلاف من الشباب يجولون شوارع غزة على كراسي متحركة أو على عكاكيز وينتظرون مساعدات مالية تأتيهم من هذه الجهة أو تلك.
ولكن من الممكن قراءة المشهد بطريقة مختلفة إذا تم وضع قرار العودة للمسيرات في سياق التصعيد في المنطقة وخطاب التهديد بحرب شاملة سواء من دولة الكيان الصهيوني أو من طرف حركة حماس على لسان نائب رئيس المكتب السياسي العاروري وتهديد قادة الاحتلال وعلى رأسهم نتنياهو باغتيال العاروري، وفي هذه الحالة يصبح التصعيد على جبهة غزة جزءاً من التصعيد الشامل والتهيئة والاستعداد لحرب قادمة.
في الحالتين فإن حصار غزة واحتمال الحرب الشاملة والتهديد الوجودي الذي تشكله الحكومة العنصرية الإسرائيلية قضايا مصيرية تخص كل الشعب الفلسطيني وبدلا من قرارات منفردة تتخذها حماس وبعض فصائل غزة كان يجب الذهاب الى الوحدة الوطنية الشاملة وتمتين الجبهة الداخلية، وحتى على مستوى المسيرات كان يجب التوافق الوطني بين غزة والضفة لتفعيل مسيرات شعبية سلمية في كل الأراضي الفلسطينية تحت إشراف قيادة وطنية موحدة.