ومع ذلك، كلنا يعرف إمكانيات السلطة، وأنَّ قيامها بأي مواجهة عسكرية مباشرة مع الاحتلال تعني حرباً خاسرة لا محالة، وتداعياتها لن تقتصر على تدمير مؤسسات السلطة ومراكزها، بل سيمتد تأثيرها إلى ما هو أخطر وأبعد من ذلك بكثير.
وهناك سيناريوهات إسرائيلية جاهزة لكنها مخبأة في الأدراج لمثل هذه الحالة، أقل ما يمكن وصفها بأنها سيناريوهات كارثية ومرعبة وترقى إلى مستوى نكبة جديدة، تتضمن حملات تطهير عرقي وترانسفير جماعي. وقد أشرت لها في مقالات سابقة.
ومع تزايد هجمات المستوطنين تتردد مقولة شعبية مفادها أن المستوطنين صاروا أكثر جرأة، بعد أن كانوا يتنقلون على الطرقات بخوف وحذر، ويحسبون لنا ألف حساب.. يبدو في المقولة حنين لزمنٍ مضى، ونوع من اللوم الذاتي.. وفي الحقيقة المسألة لا علاقة لها بالشجاعة والجبن، كل ما في الأمر أن تعداد المستوطنين قبل ثلاثين سنة كان بضع عشرات من الآلاف، اليوم يزيد عددهم على الـ 700 ألف مستوطن، إضافة إلى توجه حكومي إسرائيلي بالكامل بدعمهم وحمايتهم والتغطية على جرائمهم.
المقولة الثانية (ومن يرددها الإعلاميون والمحللون السياسيون) تقرن بين إرهاب المستوطنين وتزايد أعدادهم والحكومة الإسرائيلية، والتي يصفونها دوماً باليمينية والعنصرية، والأشد تطرفاً.. وفي الواقع مثل هذه التوصيفات لا تساعد على فهم الحقيقة، وتبرئ الدولة والمشروع الصهيوني من سمات العنصرية والتشدد والتطرف، كما لو أن الحكومات السابقة كانت أقل تطرفاً، أو كانت حمائم سلام!
ولفهم الأمر على نحو صحيح وبطريقة موضوعية ينبغي فهم حقيقة المشروع الصهيوني نفسه، فالمسألة لا تقتصر على توجهات شخصية متطرفة لنتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغيرهم.. وتكمن المسألة في سمات وخصائص المشروع الصهيوني وبنيته العنصرية وأهدافه التوسعية ودوره الوظيفي.
فالمشروع الصهيوني استهدف كل فلسطين، وكان يريد منذ البداية طرد وتهجير كل الفلسطينيين، بل وإلغاء أي وجود لشيء اسمه الشعب الفلسطيني.. لكنه لم يتمكن من ذلك لأسباب عديدة يطول شرحها.
بيد أنه ظل متمسكاً بالهدف ذاته، يضمره، ويخفيه، ويتوارى تحت مسميات عديدة تمهيداً لتهيئة الظروف التي تمكنه من تحقيقه.
الاستيطان أحد أهم أدواته في تحقيق ذلك الهدف الكبير، ابتلاع كل الأرض، وتهجير السكان.
اليوم، تكاد إسرائيل تصل إلى إحدى أهم ذروات الصهيونية، توسعة الاستيطان بشكل غير مسبوق، يساعدها في ذلك تواطؤ أميركي مكشوف، فها هي إدارة بايدن، تواصل تقديم الدعم المالي للمستوطنات الذي أقرته إدارة ترامب، رغم الخداع الإعلامي الذي تقول فيه إن المستوطنات غير شرعية وتخالف القانون الدولي.
ويساعدها أيضاً نفاق أوروبي فاضح ومقيت، وتواطؤ مريب من دول التطبيع العربي، وصمت وتخاذل من البقية.. وطبعاً لا ننسى العامل الأهم: الانقسام الفلسطيني.
بمعنى آخر، تزايد هجمات المستوطنين ما هو إلا استكمال لما عجزت دولتهم عن تحقيقه إبان النكبة، ومحاولة لإخراج إسرائيل من المأزق الذي وقعت فيه بسبب النكسة (القنبلة الديموغرافية)، أو بتعبير أدق تهيئة الظروف لحسم الصراع وإنهائه لصالح المشروع الصهيوني، وهو دور يتكامل مع ما تقوم به المؤسسة الرسمية (الجيش) من قتل وهدم بيوت واعتقال وتهجير قسري ومصادرة أراضٍ وسن قوانين عنصرية.
ومع ذلك تحاول الحكومة الإسرائيلية الفصل بين إرهاب جيشها وأجهزتها الأمنية، وبين هجمات المستوطنين، وكأنّ ما تقوم به مشروع ومقبول! وتحمّل المستوطنين المسؤولية، في محاولة بائسة لتحسين صورتها أمام العالم؛ فقد أصدر الجيش، بياناً يندّد بإرهاب المستوطنين، ويعتبره «إرهاباً قومياً يُلحِق الضرر بالدولة».
وهذا البيان ربما الأول من نوعه لأنه لا يتحدّث عن أشخاص كما جرت العادة، وإنّما عن مستوطنين بالجُملة، وبالتالي فهو يُشكّل اعترافاً رسمياً صريحاً بإرهاب المستوطنين.
والحقيقة واضحة لكل من يريد رؤيتها: إسرائيل متورّطة بالكامل في دعم وحماية إرهاب المستوطنين، وهي تمتنع عن محاسبة من تعتبرهم متورّطين في ممارسة الإرهاب.
على أي حال من السخافة أن نعوّل على «عدالة إسرائيل»، وأن ننتظر منها لجم المستوطنين.
اليوم، تتضح الحقيقة أكثر من أي وقت مضى: إرهاب المستوطنين والجيش حلقة متكاملة تشكل الخطر الوجودي الأهم منذ النكبة، وعلينا مواجهة هذا التهديد بشكل يختلف عن أدواتنا وأساليبنا الحالية، هذه مهمة وطنية ستكون العنوان الأبرز لسنوات طويلة قادمة، وعلى منظمة التحرير والسلطة الوطنية وحركة فتح القيام بمراجعة شجاعة لكل ما سبق، وأن تثبت نفسها وجدارتها للتصدي، وأن تستنهض نفسها من جديد، وإلا تحولت إلى مجرد يافطات بلا معنى كما حصل مع «حكومة عموم فلسطين».
المطلوب استنهاض طاقات الشعب، وتبني خطاب مقاومة وخط سياسي مختلف وثوري، وخطاب إعلامي يفضح ممارسات إسرائيل العنصرية، ويُعزّز الخطاب الحقوقي، الذي يرى الاستيطان غير شرعي، وغير قانوني بموجب قرارات الأمم المتحدة.
وهذه ليست مهمة السلطة وحدها، ولا هي مهمة الأجهزة الأمنية وحدها، كما جرت العادة في استسهال إصدار الأحكام، واستمراراً لنهج المناكفات الحزبية.. وهو أسلوب التهرب السهل، والتحلل من المسؤولية الوطنية.
المطلوب أولاً فك الرهانات على أي قوة خارجية، فلا الجيوش العربية ولا الدول الإسلامية بوارد التفكير بنا، ولا أردوغان، ولا محور المقاومة، ولا انتصار روسيا على أوكرانيا، ولا هيمنة الصين على النظام الدولي.. كل ما ذكر مجرد رهانات خاسرة، تُضاف إلى سلسلة رهانات تبين أنها مجرد أوهام وتمنيات.
الرهان يجب أن يكون أولاً على قوتنا الذاتية، على الجماهير الشعبية، على وعينا الوطني، وعلى أخلاقية وعدالة قضيتنا، ثم بعد ذلك نفكر بتشكيل جبهة حلفاء وأصدقاء وداعمين.
لكن هذا لا يمكن أن يتم في ظل الانقسام، الانقسام يقصم ظهر الفلسطينيين، ويمنع القضية الفلسطينية من إحراز أي تقدم في أي مجال.. الانقسام يخلق أفقاً واحداً وحيداً: «دويلة غزة» بزعامة حماس.
وبموازاة أهمية إنهاء الانقسام، على الفصائل والأحزاب أن تستعيد دورها الوطني، وتنفض عنها ما علق بها من غبار وتكلس.
وهي أيضاً مسؤولية تقع على المنظمات الأهلية والمؤسسات المدنية وعلى الجامعات والاتحادات والنقابات والنخب والمثقفين والاقتصاديين.. وعلى الجماهير المسحوقة والقوى الضاربة والكتائب المسلحة.. والرهان الأكبر على جيل الشباب.. وعلى تمسكهم بالأمل، وبحب الوطن.