كتب: عقل أبو قرع
هناك واقع بدأ يتجسد أمام أعيننا يوماً بعد يوم، من موجة التغيرات المناخية التي أحدثتها التداعيات البيئية في العالم، والتي نتجت عن الاستخدام المكثف والمتواصل لمصادر الطاقة غير المتجددة، من نفط وفحم ومن اجتثاث للغابات، بشكل ادى الى تكوّن ما بات يُعرف بـ «الاحتباس الحراري»، والذي نلمسه هذه الأيام من ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الحرائق والتصحر والفيضانات والأعاصير وشح المياه وتداعي الأمن الغذائي، بحيث بات التوجه الى الاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد الصديق للبيئة أمراً حتمياً.
والاقتصاد الأخضر، أو بمعنى آخر الاقتصاد المستدام، هو الاقتصاد الذي تتم إدارته بصورة مستدامة وفعالة وصديقة للبيئة، أي بدون استنزاف اقتصادي وبيئي، ويهدف الى ترشيد استخدام الطاقة والمياه وتقليل إنتاج النفايات بأنواعها المختلفة، خلال وبعد الانتهاء من النشاط الاقتصادي، مثل استخدام الطاقة الشمسية أو المتجددة بشكل أساسي وفعال، وإعادة تكرير المياه واستخدام المياه الرمادية، ووجود أنظمة من اجل فصل وتدوير النفايات، وحتى الاستثمار في إنتاج الهيدروجين الاخضر من المياه كمصدر نظيف للطاقة، وهناك مؤسسات تحدد معايير وأسس ومواصفات الاقتصاد الاخضر، وهناك دول تقوم بمنح الحوافز والتشجيع من اجل التوجه الى هذا النوع من النشاطات الاقتصادية الخضراء.
وفي هذه الايام، لا تكاد تخلو خطة أستراتيجية او تنموية أو اعلامية، لأي بلد من بند الاستثمار والتوجه نحو مصادر الطاقة المستدامة، مثل الرياح والشمس والغاز والنفايات وما الى ذلك، أي بعيدا عن مصادر الطاقة التقليدية الحالية من بترول وفحم حجري ومشتقاتهما، واصبح اقتصاد العديد من الدول المتقدمة، يعتمد وبشكل أساسي على مصادر الطاقة الخضراء أو الطاقة الصديقة للبيئة، والسبب في هذا التوجه هو التداعيات الخطيرة التي يشهدها العالم نتيجة التلوث الناتج عن الاستهلاك غير المحدود للبترول وللفحم، وبالتالي بث ملايين الأطنان من الغازات الى الجو، ومن ثم تشكل ظاهرة الاحتباس الحراري، وما لذلك من آثار جوية عنيفة، باتت جزءاً من النظام المناخي لهذا العالم.
ومن أجل تشجيع الاقتصاد الأخضر والممارسات الخضراء بشكل عام، أي الممارسات التي لا تضر بالطبيعة والبيئة، احتفل العالم قبل عدة سنوات، بيوم البيئة العالمي تحت شعار» الاقتصاد البيئي او الاقتصاد الأخضر»، كاقتصاد مستدام، يحافظ على البيئة ويعمل على عدم استنزاف المصادر الطبيعية غير المتجددة، وبات من المعروف العلاقة الوثيقة التي تربط البيئة وبمصادرها المتعددة مع الاقتصاد او التنمية والتقدم الاقتصادي، وما الى ذلك من انعكاسات اجتماعية وثقافية وحتى سياسية.
ومن ضمن النشاطات الاقتصادية الخضراء إنشاء ما يعرف بـ «المباني الخضراء»، التي من المفترض ان تحد من كميات الغازات التي يتم بثها من مصادر الطاقة التقليدية كالبترول والفحم، مع العلم ان حوالي 30% من غازات التلوث او ما يعرف بـ «غازات البيت الزجاجي» يتم بثها من خلال المباني، وهذا ينطبق كذلك على استغلال المياه، مع العلم ان تصميم المباني بشكل بيئي او أخضر. يمكن ان يؤدي الى توفير حوالى 12% من كمية المياه، وفي نفس الوقت دلت الدراسات ان حوالي 40% من النفايات الصلبة يتم انتاجها من خلال نشاطات السكان في المباني، وبالتالي يمكن تصور الابعاد الاقتصادية والصحية والبيئية للحد من جزء او لإعادة تدوير جزء من النفايات الصلبة كجزء من تصميم المباني الخضراء.
وفي بلادنا، فإن الإقبال على الممارسات الاقتصادية والعمرانية الخضراء، من خلال عدم استنزاف المصادر المتاحة، وخاصة في الحالة الفلسطينية التي تتمتع بمصادر طبيعية محدودة وبحيز مكاني ضيق، سوف يعمل ويشجع في المحصلة على إنشاء المزيد من المشاريع التنموية، وبالتالي الى إيجاد المزيد من فرص العمل والتشغيل، وبالتالي يعمل على محاربة الفقر والحد من البطالة، وفي نفس الوقت حماية البيئة من الدمار ومن الاستنزاف، ومن عدم القدرة على ملاءمة الحياة او النشاط للأجيال القادمة.
وفي ظل التغيرات والتقلبات المناخية الحادة التي نشهدها هذه الأيام، فالمطلوب في بلادنا العمل من أجل استغلال طاقة الشمس، وهذه أولوية وطنية، وبالأخص أننا ما زلنا نشتري غالبية الكهرباء والطاقة، او الوقود غير النظيف للطاقة، وبأسعار مرتفعة، وبشروط وبقيود وبتهديدات متنوعة، وبالتالي فإننا نحتاج الى استراتيجية وطنية شاملة وملزمة ومحمية بقوانين وتشريعات، ومن خلال تشجيع التكنولوجيا والمبادرات والخبرات، ومن خلال الحوافز والدعم، والاتجاه الى مصادر الطاقة المستدامة او الطاقة المتجددة، او الصديقة للبيئة او النظيفة، او مصادر الطاقة الخضراء، ومنها الشمس والرياح والمياه والغاز والنفايات الصلبة، وما الى ذلك من مصادر نستطيع ان ننتجها ولو بشكل تدريجي او تراكمي، وفي نفس الوقت نستغني وبشكل تدريجي عن مصادر طاقة، تكبل أيدينا وتستنزف أموالنا وتلوث بيئتنا، وتقيدنا سياسياً ومالياً واقتصادياً ونفسياً.