كتب: عبد الغني سلامة
بينما كان صديقاي خضر وعبد الله يجلسان على مقعد خشبي في ساحة الدوار الثاني في جبل عمّان، وكان الوقت يقترب من منتصف الليل، وحرارة الجو بدأت تنخفض تدريجياً بعد نهار قائظ، وكانت الساحة تعج بالعائلات الهاربة من حر البيوت، والعديد من الزوار والسائحين.. كان رجل سبعيني نحيف – تبين لهما من لهجته أنه لاجئ سوري – يجلس متكئاً على تعبه، وقد اتخذ من طرف الساحة حيزاً صغيراً يعرض أمامه مجموعة متواضعة من ألعاب الأطفال زهيدة الثمن، على أمل بيعها، وجمع ثمن عشاء له أو لأفراد أسرته. كان يبدو عليه النعاس والإرهاق، وكل همه انتهاء هذا اليوم الطويل المضني، علّه يجد فراشاً يلقي عليه جسده المنهك، ويلملم شظايا روحه التي بعثرتها الحروب وتقلبات الزمن.
اعتاد هذا العجوز بيع بضاعته البسيطة في تلك الساحة، ومع مرور الوقت صار وكأنه حارس لها، ينظفها، ويعيد إلقاء نفايات المارة إلى سلة المهملات، وإذا رأى أحداً يهم بالاعتداء على شجرة ينهاه عن ذلك.. يفعل ذلك متطوعاً، أو لتنشيط جسده من الجلسة المتعبة.. في تلك الليلة كان بعض الأطفال يركضون حوله بشقاوة، يقتربون منه ويبتعدون، ويعبثون بالألعاب المعروضة أمامه، وهو صامت.. حتى ضاق ذرعاً بهم، خاصة حين اقترب منه طفل وكاد يحطم بضاعته، فنهره قائلاً: «روح عند إمك».
وبالفعل، راح الطفل لأمه شاكياً باكياً، مدعياً أن العجوز قد ضربه. على الفور جاءت سيدة خمسينية وجهها متجهم، وتصيح بأعلى صوتها على العجوز الذي بدا مرتبكاً ومتفاجئاً، وإزاء صمته، ثم محاولة إنكاره أنه ضرب الطفل، كانت السيدة ترفع صراخها أكثر فأكثر، وتنهال عليه بالشتائم، والتهديد بأنها ستمنعه من دخول الساحة بعد اليوم، وأنها ستسفّره خارج البلد، مع سيل من الكلمات البذيئة.. وفي هذا الأثناء جاء شاب عشريني غاضباً، وقد أخذته الحمية القبلية وأراد أن يهجم على العجوز ويضربه، إلا أن بعض المارة حال دون ذلك، لكنه ظل يشتم ويسب.. ثم اقتربت السيدة الخمسينية أكثر وهي في قمة الغضب وبدأت تدوس على الألعاب بقدميها في محاولة لتكسيرها وبعثرتها.
كان على مقربة من الحدث شرطيان بالزي الرسمي، إلا أنهما اكتفيا بالمشاهدة، ولم يحركا ساكناً.. وكذلك جميع من هم بالساحة كانوا يرقبون المشهد بحيرة وحزن وكأنهم عاجزون عن التدخل.
فجأة انقلب الموقف، كانت مجموعة من النسوة الفيليبينيات يجلسن في نفس الساحة ويرقبن المشهد بغضب، فقامت إحداهن وبدأت تصرخ في وجه السيدة الخمسينية تارة بالإنجليزية، وتارة بالفليبينية، وتارة بعربية ركيكة.. لكن مضمون كلامها وتعابير وجهها كانت في غاية الوضوح.. كانت تشتم الخمسينية، وتتهمها بالعنصرية، والتعالي على الناس، وتؤكد أن أحداً لم يضرب الطفل، بل إن الطفل كان مزعجاً.. فردت عليها الخمسينية بسيل من الشتائم العنصرية والتهديد بأنها سترّحلها مع جميع صديقاتها «الخدامات» خارج البلد.. وهنا تشجعت بقية صاحباتها وبدأن يدافعن عنها وعن العجوز السبعيني.. في موقف جماعي شجاع.
لم يكتفين بالكلام، توجهن مع أطفالهن إلى العجوز واشترت كل واحدة منهن لعبة ما، وهنَّ يربتن على كتفيه، ويسمعنه كلمات التشجيع والمواساة.. وهنا حصل التطور الثاني في الموقف.
توجه جميع من كانوا في الساحة، ومعهم المارة، وبعضهم ترجل من سيارته وراحوا إلى العجوز حتى اشتروا كل بضاعته، وهم يشكرونه على نبله وصبره ويواسونه بالكلمات الطيبة.. فيما كانت تلك الخمسينية تواري وجهها خجلاً وخزياً، أما الشاب فقد انسل بهدوء وغادر المكان.
هذه المشهد ليس كاميرا خفية، ولا فقرة من برنامج الصدمة، هذه قصة حقيقية حدثت فعلاً أمام أعين أصدقاء لي، أثق بهم.. المهم في القصة ليس نهايتها السعيدة، بل بدايتها التعيسة.. فهي تكشف لنا الكثير عن واقعنا المزيف والمريض.
مثل هذه القصة، وربما أكثر منها بؤساً وقسوة حدثت وما زالت تحدث كل يوم، في كل بقعة من بقاع الأرض، في كل مكان كان قدره أن يؤوي اللاجئين والمهجرين والهاربين من جحيم الحروب، والباحثين عن فرصة للحياة.
هؤلاء تجبرهم ظروفهم القاسية على مغادرة أوطانهم، وفي الطريق يواجهون شتى أصناف المعاناة والقهر، يتحملون الجوع العطش وتتعب أرجلهم، وقد تتمزق أحذيتهم من طول المسير، وقد تنحني ظهورهم من أحمالهم الثقيلة، وقد يواجهون الوحوش والضواري وأسماك القرش، والنوم في العراء، والهروب من الشرطة وحراس الحدود.. كل هذا وأكثر يواجهونه ويصبرون عليه ويتعالون على جراحهم.. لكن الأشد ألماً، والذي لا يُطاق: معاناتهم مع الناس (ليس مع الحكومات)! يتلقون منهم نظرات التعالي، والفوقية، والعنصرية، والتنمر، والاعتداءات، والاستغلال، وحتى سرقة مقتنياتهم.
للأسف الشديد مثل هذه القصص تحدث في بلداننا العربية والإسلامية، ومن أراد التأكد عليه الاطلاع على تقارير إخبارية عن معاناة اللاجئين في تركيا، ومعاناة الأفارقة في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب، وسائر البلدان العربية.. وعن معاناة لاجئي دارفور والصومال وأفغانستان وفلسطين والعراق وسورية، معاناتهم حتى داخل بلدانهم.
قبل أن نلوم الغرب والأوروبيين على عنصريتهم تجاه العرب والمسلمين لنلقِ نظرة سريعة على حالنا، لندرك أننا لا نقل عنهم وحشية وعنصرية.
طبعاً، لا أحد ينكر أن نسبة كبيرة من الناس تتعاطف مع اللاجئين، وتعاملهم بإنسانية، وباحترام يليق بإنسانيتهم.. لكن علينا نبذ العنصرية، لأنها بذيئة، وعمل غير إنساني، وغير أخلاقي.