في إجراء رئاسي غير متوقع ومفاجىء ووصف بالعزل كما وصفه أنفسهم المحافظون المعزولون، أحيل على التقاعد اثني عشر من المحافظين الفلسطينيين دفعة واحدة، جزء منهم من محافظات الجنوب والأغلبية منهم من محافظات الشمال. وإثر ذلك نشطت وسائل الإعلام من مقروءة ومسموعة ومرئية وتواصل اجتماعي، في تحليل ما جرى وعما سيجري والأسباب الداعية لذلك، وانشغلت الأقلام في أسئلة سياسية وتحليلية وشخصية لهذا القرار الفردي وأبعاده. وهل هو مقدمة لحل سياسي قادم، أم يخفي تجديدا في نظام سياسي قادم وكثرت التكهنات. وفي هذه العجالة، لن تكون هذه الأمور محل توقف وتحليل، فقد أشبعت تحليلا ودردشة، لكن المحور القانوني هو الذي سيسيطر على هذه المقالة من حيث ضرورة وصيرورة هذا النظام السلطوي المسمى بالمحافظة، أم حان الوقت لإلغائه، والإستعاضة عنه ببديل يقوم على الإنتخاب الحر المباشر. وكما هو معروف للقاصي والداني أن القانون هو رافعة الشعب الفلسطيني للحضارة والحداثة والتقدم.
يبدو أن النظام الإداري الفلسطيني مصرعلى أن يكون جزءا من الأنظمة الإدارية العربية البالية، والتي أكل الدهر عليها وشرب، وتقوم على نظرية الأمن التي يمثلها المحافظ الذي يقوم بدور أمني ليس إلا، ويرفض التقدم عليها وتقديم بديل متقدم لها. صحيح أنه ورثها ممن سبقوه، لكنه طبقها ولجأ إليها ولم يقيدها إن لم يوسع صلاحياتها، واستعان بالمحافظين وهم برتبة وزير وعندهم تقاعد مجز، وكان أغلبهم رجال أمن أي عسكريين وليسوا بمدنيين، وكأن وظيفتهم تقييد السلطات المدنية كالبلديات والحريات المدنية للأفراد عبر الإعتقالات ومنع المظاهرات.
عرف الحكم المحلي في شتى أرجاء العالم، نظام إداري يسمى بالبلدية بغض النظر عن عدد سكان منطقة ما وجنسياتهم وعرقهم ودينهم ولغتهم ولونهم. وهي هيئة منتخبة من سكان منطقة جغرافية محددة للتتولى الشؤون المدنية لتلك الرقعة الجغرافية ضمن التقسيمات الإدارية في تلك الدولة. واختصاصات أية بلدية اختصاصات واسعة جدا يصعب أن يحصرها مقال وإلا استغرقته كاملا حتى في الدول البوليسية. وعلى سبيل المثال لا الحصر هي تختص من رخص البناء والأسواق، وأرصفة الشوارع وإنارتها، والشؤون الصحية، والمياه والمجاري، وإنشاء الحدائق العامة والساحات والمنتزهات، حتى الأمور البسيطة مثل البسطات، واقتناء الحيوانات واحتجاز الكلاب الضالة في المدينة وتطويرها. ومن نافلة القول ان هذه البلديات تكون مرتبطة برباط واه، أو قوي مع وزارة البلديات أو الحكم المحلي صاحبة الإختصاص، بحسب الفكر السياسي السائد ودرجة الحرية السائدة حتى لا تستقل تماما.
وحتى يكتمل وجها مفهوم الديموقراطية بشقيها السياسي والإداري، في أية بقعة من بقاع العالم، لا يكتفى بالإنتخاب السياسي لمجلس النواب أو البرلمان، بل يضاف إليه انتخاب لمجالس الحكم المحلي التي تعرف بالبلديات، وأحيانا تقترنان. بل يكون صورة المفهوم الديموقراطي ناقصا وغير تام ، إذا احتوى على جزء وأهمل جزءا آخرا. واعتمد القانونيون الإنتخاب الحر المباشر الدوري عمادا لكلا النوعين من الديموقراطية، الوجه السياسي والوجه الإداري. ناهيك أن للبلدية اختصاص وللبرلمان اختصاص ، ولا تقاطع بينهما ولا تنافس. وكثير من القيود التي تسري على الإنتخاب السياسي تطبق على الإنتخاب الإداري، بل يرى الكثيرون أن نتائج الإنتخابات الإدارية هي مؤشر على ما ستكون عليه نتائج الإنتخابات السياسية.
من هنا، تبنت النظم الإدارية الحديثة استبعادا وإلغاء لشكل الإدارة المتمثلة بالمحافظ والمحافظة، واستبدال اختصاصه بشكل البلدية ومجلسها ورئيسها ووظيفتها. فهي لم تجمع بينهما كما هو حاصل عندنا أو في العالم العربي، بل أقصت من الوجود نظام المحافظ أو قلصت صلاحياته إلى درجة كبيرة جدا وجعلته رمزيا بروتوكوليا. فقد ضاق ذرعا صدر الديموقراطيين ورجال الفكر الحر، بالأساليب البوليسية التي تأتي بهم لسدة الحكم. فمعظم المحافظين في دول العالم هم رجال أمن وعقولهم عقول عسكرية غير مدنية متفتحة قاعدتهم نفذ ثم ناقش.
وهم يعينون تعيينا من قبل الحاكم ولا ينتخبون من قبل الشعب، وكأن الوسائل الأوتوقراطية كالتعيين غدت تفضل من الوسائل الديموقراطية كالإنتخاب. ذلك أن من يعين، يدين بالولاء لمن عينه ليستمر وليجدد التعيين، أما من انتخب، فيدين بالولاء لمن انتخبه حتى يعاد انتخابه من جديد.
والمحافظون يستنزفون موازنة الدولة بدون جدوى، بمخصصاتهم وبمصاريف مبانيهم وبرواتب موظفيهم. والأخطر من هذا وذاك أنهم يتقاطعون مع اختصاص البلدية ورئيسها وينافسونه بشكل غير قانوني وضار بحيث يجمدون أعماله وأعمال البلدية.
وفي التجربة الفلسطينية تعدوا على اختصاص القضاء الفلسطيني ووظيفته بالفصل في الخصومات، حينما أنشئوا دائرة قانونية عندهم لحل خلافات المواطنين وحينما قاموا باعتقالهم عملا بقانون أردني بائد من أيام الخمسينات. وبلغت بهم الجرأة استدعاء بعض القضاة الضعاف وبعض رجال النيابة العامة للتأثير عليهم وعلى قراراتهم.
وفي النهاية ليس للمحافظين عمل حقيقي جوهري لا يمكن الإستغناء عنه، بل هم عبء على المواطن وجميع وظائفهم يمكن أن يقوم بها آخرون ويحلون محلهم ببساطة، كرؤساء البلديات ومدير الشرطة ومدير الصحة هكذا دواليك. وإن وجد مثل هذا ألأمر، فيمكن بتعديل قانوني بسيط تفويض ذلك العمل لموظف إداري رفيع أو وزير. أما قضية التعود على ذلك من زمن سحيق والروتين الذي نسير عليه، أو التكامل المزعوم مع الأنظمة العربية الإدارية الأخرى فتلك قضية أخرى.
وبعد ذلك لنسأل ماذا يبقى من اختصاصات المحافظ ولماذا هذا الهدر المالي في زمن نشكو فيه قلة الموارد.
أضف أن المسيرة العملية وفائدة الجمهور وخدماته تظهر بشكل واضح، تراجع دور المحافظين مع تقدم دور البلديات ورؤسائها.
أضف أن المحافظين يمارسون دور الوصاية الإدارية على البلديات ورؤسائها، وكأن البلدية لا يكفيها ممارسات الحكم المحلي ووصايتها عليها وتقييدها لعملها، بل أضيف إليها ممارسات رجل أمن اسمه المحافظ ليقيد اختصاص البلدية. وليس غريبا أن ينتج عن هذا التقييد والوصاية ضرر للجمهور والخدمات البلدية وتنافس حاد بين المحافظ ورئيس البلدية. وكأن هناك صراع بين المعين والمنتخب، يفوز فيه المعين.
ونشير هنا إلى إن رؤساء بلديات لمدن هامة بلغوا شأوا بعيدا نافسوا فيها رؤساء الوزرات في دولهم، بل غدوا فيما بعد رؤساء جمهوريات لتلك الدول، مثل جاك شيراك الفرنسي الذي كان رئيس بلدية باريس، ورجب طيب أردوغان التركي الذي كان رئيس بلدية استانبول.
الديموقراطية وحدة واحدة لا تتجزأ، سواء أكانت برلمانية أو إدارية، وكما هو البرلمان ينتخب بشكل حر ومباشر ودوري ليسن القوانين ويراقب عمل الحكومة، كذلك هي البلديات التي تنتخب وتعمل لخدمة المجتمع المحلي. لذا لا ضرورة أن يكون هناك محافظون سواء في المجال البرلماني أو الحكم المحلي ليضعوا قيودا هنا وهناك، مع أنهم يرتدون قناع الديموقراطية والحرية!!!