كتب: عبد الغني سلامة
في كل مرة نشهد فيها هجمة عدوانية على شعبنا، سواء حرب على غزة، أم اجتياح لمدينة في الضفة الغربية، يبرز الوجه الإيجابي للشعب الفلسطيني، ويتكشف معدنه النضالي الأصيل، فينشدُّ الشعب بأكمله بقلوبه وعواطفه وسواعده، كلٌ بحسب استطاعته وقدراته، سواء بالمتابعة الحثيثة للأحداث وتطوراتها، أم بنشر مقاطع فيديو وصور ومنشورات تعبر عن التضامن والتكاتف، أم بالخروج إلى الشوارع في مسيرات غضب واشتباكات على نقاط التماس، أو حتى في حملات التبرع والتطوع وإيواء من تقطعت بهم السبل ومن أُجبروا على مغادرة بيوتهم، أو بالانخراط الفعلي في مواجهات مع الجيش والمستوطنين وصدّ هجماتهم الإرهابية، وقبل ذلك كله بالصمود والثبات فوق الأرض الفلسطينية، وممارسة الحياة الطبيعية وتدوير عجلات الإنتاج والتطلع نحو المستقبل.. فكل ما سبق أشكال نضالية مهمة.
ولكن، ومع هذه الصورة المشرقة للكفاح الفلسطيني، لا بد من رؤية الجانب الآخر منها، أيْ الجانب السلبي:
الغريب، أن الفلسطينيين رغم رزوحهم تحت الاحتلال لأزيد من سبعة عقود، وممارستهم كافة أشكال النضال (المسلح والسياسي والدبلوماسي والشعبي والنقابي..)، وعيشهم واقعاً سياسياً يتسلل إلى أدق تفاصيل حياتهم، رغم كل هذه الخبرة الطويلة، والتي من المفترض أنها أنضجت تجربة سياسية ونضالية هائلة، إلا أننا ما زلنا عاطفيين، نفكر ونتصرف بعواطفنا قبل عقولنا، وأحياناً نلغيها كلياً (خاصة في الأزمات والمحن)، وحتى من نحسبهم من النخب المثقفة والمجربة نجدهم شعبويين، منقادين إلى دكتاتورية الرأي العام.. أو لا يجرؤون على التعبير عن موقف عقلاني خشية ردود الأفعال الغاضبة والمتشنجة.
هذه الظاهرة نلمسها بوضوح في التعليقات الغاضبة، وكأنَّ أصحابها تفاجؤوا بالعدوان، وتفاجؤوا بطبيعة الرد، أو كأنَّه العدوان الأول والأخير.. فإذا كنا في كل مرة نعزل الموجة النضالية عن سابقاتها، وحتى عن محيطها الجغرافي الضيّق، ونصنف المقاومين بحسب انتماءاتهم الحزبية، فهذا يعني صعوبة بناء تراكم نضالي مستمر، وصعوبة بناء تجربة وطنية متكاملة، سيما أننا لم نتعود على إجراء التقييمات والمراجعات النقدية، وبالتالي لا نستفيد من أخطائنا، ولا نحاول تصويب مساراتنا.. فكل فصيل له تجربته وجمهوره واختباراته.. وللأسف أجنداته الحزبية ومرجعياته الإقليمية.. وهذا بالضرورة يكرس حالة التجزئة والتفكك ويعيدنا كل مرة إلى المربع الأول.
بالعودة إلى التعليقات الغاضبة (والغضب بحد ذاته ضروري ومطلوب)، لكن ما هو مرفوض أن تتحول إلى صولات ردح وذم وشتم وتخوين، ليس لأنّ ذلك يتنافى مع أدب الحوار والاختلاف، بل لأنها تسهم في بث روح الإحباط واليأس.. ولأن الغضب هو اللحظة التي يغيب فيها العقل، فإن ما يقوله الغاضب ليس بالضرورة صحيحاً، بل أحياناً يكون منفصلاً عن الواقع، أو مضللاً، ويقود إلى نتائج كارثية.
بالطبع من الصعب أن ننسى أننا أناس من لحم ودم وعواطف، ومن البديهي أن نثور ونغضب ونتأثر بالإجرام الصهيوني، وعند سماع نشرات الأخبار المفزعة، ومشاهد الموت والدمار.. ولا يحق لأحد لوم المواطن العادي وتأثره والتعبير عن رأيه مهما كان قاسياً.. ولكن لا يجب أن ننجر وراء عواطفنا، خاصة أن تلك العواطف الجياشة تخبو وتتوارى وتغيب بمجرد انتهاء العدوان.. ما يدل على أنها عند البعض مجرد هياج عاطفي.
من حق كل فلسطيني أن يسأل أين دور السلطة؟ أين الأجهزة الأمنية؟ أين الفصائل؟ أين المسلحون؟ هذه أسئلة مشروعة ومحقة.. لكنها في الوقت ذاته تعبر عن إشكالية حقيقية، ليس في الإجابة عنها، فالسلطة والأجهزة والفصائل مقصرة، ولا بد من مساءلتها.. الإشكالية فيما غابت عنه تلك الأسئلة.
هذا يدل على قصور في فهم الكفاح الوطني والاعتقاد أنه يتمثل فقط في الكفاح المسلح، وأن دور الجماهير ثانوي، هذا أولاً، وثانياً يدل على أن الجماهير ما زالت تفكر بعقلية انتظار «المخلّص»، أيْ انتظار الحل الذي سيأتي من الخارج، أيْ من خارج الجماهير: من قائد عظيم (كما انتظرناه من عبد الناصر ومن صدام) من جيش جبار (من ينتظرون الجيوش العربية والإسلامية)، أو من محور المقاومة، أو من أردوغان، فإذا لم يكن من هؤلاء فمن السلطة وأجهزتها الأمنية، أو من صواريخ «القسام»، أو من الكتائب المسلحة على اختلاف مسمّياتها.. المهم أنّ من يسألون أين فلان وعلان لا يسألون أنفسهم أين نحن!
قبل أن تبحث عن أيّ منقذ ومخلّص، تجرد من أحقادك، ومن انحيازاتك المعرفية، ومن مواقفك المسبقة، ومن أحكامك الجاهزة، ومن انتماءاتك الحزبية.. تجرد منها ولو لثوانٍ قليلة، ثم واجه نفسك بأمانة وشجاعة، وسلْ نفسك: ماذا قدمت أنا؟ وماذا بوسعي أن أقدم؟
حتى لو شاركتَ في مسيرة أو اعتصام أو تظاهرة غاضبة واشتبكت مع العدو على نقاط التماس، أو صرختَ في وجه جندي على الحاجز، أو كتبتَ شعاراً على حائط، حتى لو حملتَ السلاح، أو تطوعتَ مع الإسعاف والدفاع المدني، أو تبرعتَ بجزء من مالك، أو بصندوق معلبات، أو ملابس، أو نشرتَ مقطع فيديو، أو صورة أو بوستاً، أو كتبتَ مقالاً، أو اكتفيتَ بصمودك في بيتك، ومتابعتَك للأخبار.. مهما فعلتَ، فإن ما تفعله واجب عليك، ولا داعي لأن تمنّ على الآخرين.. فغيرك ضحى بروحه، أو ضحى بسنوات عمره في السجون، أو خسر عضواً من جسده، أو نذر حياته للنضال وبقي سالماً معافى.. فليس شرطاً أن تُسجن أو تموت حتى تثبتَ أنك وطني وقدمتَ لشعبك.. المصيبة أن البعض لم يفعل شيئاً حتى بالحد الأدنى، ويملأ الدنيا صراخاً وغضباً.. ويصدر الأحكام ويصنف الناس مكتفياً بنقره على الكيبورد.. بالمناسبة، توزيع الاتهامات والتخوين ومساءلة الغير أسهل وسيلة للتهرب من المسؤولية الشخصية، وهي وصفة لإراحة الضمير.
أخطر ما يمارسه هؤلاء بثّ روح الإحباط، والضياع والتشتيت، والمساهمة في تكريس واقع الانقسام، وإغراق الآخرين في مستنقع المناكفات وتبادل الاتهامات.. المهم عندهم «فشة الخلق» ولتخرب الدنيا بعد ذلك.. في حين أن أهم ما نحتاجه الآن وفي كل وقت هو التلاحم والتعاضد ورفع المعنويات، والوحدة الوطنية والتحلي بالمسؤولية والاحتكام للعقل.. فهذه أسلحتنا الفتاكة، وبوابة انتصارنا، والتي من دونها سنُهزم وننكسر.
نحتاج دوماً قلب الفدائي الشجاع، وعقل السياسي البارد.. نحتاج حاضنة شعبية، ومعارضة مسؤولة، لا جموع غوغاء.