في إطار ما يدعيه الاحتلال الإسرائيلي من محاربة الإرهاب، اجتاح جيش الاحتلال مخيم جنين مؤخراً، مطلقاً على عمليته العسكرية مسمى (بيت وحديقة). لقد استوقفني هذا الاسم، ولفت انتباهي، وأخذني في لحظة إلى ما كانت النازية تفعله باليهود في ألمانيا، مستخدمة مصطلح عملية تعشيب الأرض وجز الأعشاب الضارة، لذا يشكل الاسم الذي أطلق على العملية العسكرية في مخيم جنين صورة من صور الاحتلال العنصرية الدموية.
تبقى الراية الأمنية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي هي سيدة الموقف العلني، لكن في الخفاء تعلو راية تصدير الأزمات الداخلية. بشكل أوضح، يعيش الاحتلال الإسرائيلي أزمات داخلية عميقة بين المعارضة والائتلاف الحكومي. تعلي المعارضة الإسرائيلية في الميدان منذ أكثر من نصف عام، مطالبها الرافضة للإصلاحات القضائية، يقابلها ضغوط تمارسها الأحزاب الصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة التي تشارك في الائتلاف الحكومي على بنيامين نتنياهو، وتهدده بشكل علني وصريح، بالانسحاب من الحكومة إذا لم يتم إجراء الإصلاحات القضائية. إضافة إلى ذلك، يعيش نتنياهو أزمة شخصية، تتمثل في ملفات الفساد التي تطارده منذ سنوات.
إن ما حدث في غزة قبل أشهر، وما يحدث في نابلس، وجنين التي اجتاحها جيش الاحتلال، يدل على مدى عمق الأزمة الداخلية التي تعيشها حكومة الاحتلال اليمينية، ومحاولتها تصدير هذه الأزمة غير المسبوقة والمستمرة. يضاف إلى ذلك الضغوط الأميركية فيما يتعلق بالإصلاحات القضائية، والتي تعتبرها الولايات المتحدة مساساً بالديمقراطية. هذا دأب الاحتلال المستمر في كل أزمة داخلية تواجهه، فهو يبحث عن ساحة لمعركة عسكرية، ظاهرها الأمن غالباً، وباطنها محاولة الهروب إلى الأمام، وتصدير الأزمة.
ربما يدور سؤال حالياً حول الأهداف التي حققها جيش الاحتلال من اجتياحه مخيم جنين، لكن برأيي يجب أن يدور السؤال الأهم حول الأهداف التي أعلنها الاحتلال من الاجتياح. حقيقة تضاربت تصريحات قيادة جيش الاحتلال حول أهداف الاجتياح، ففي البداية ادّعت أن العملية العسكرية ستكون شاملة، ولن يخرج الجنود قبل القضاء على ما وصفتهم بالإرهابيين، لكن صدرت بيانات لاحقة بيّنت تراجع جيش الاحتلال عن هدفه المعلن. لقد تحدثت تلك البيانات عن أن العملية العسكرية ستكون محدودة، وأن مسلحين فلسطينيين استطاعوا الخروج من مخيم جنين، وأن جيش الاحتلال ربما يحتاج لعمليتين عسكريتين، أو أكثر، للقضاء على المسلحين في المخيم. يضاف إلى ذلك التصريحات اللاحقة لوزير جيش الاحتلال يوآف غالانت التي أكدت نجاح العملية العسكرية في ضرب البنية التحتية للمسلحين في المخيم.
لو افترضنا أن الهدف الإستراتيجي لاجتياح مخيم جنين هو القضاء على المقاومة الفلسطينية، وضرب بنيته التحتية، فحسب اعتقادي لم تحقق هذه العملية العسكرية هدفها، والتاريخ والتجربة والواقع هي من تقول ذلك. إن المقاومة الفلسطينية الباسلة في مخيم جنين ليست دخيلة على هذا الواقع، فعماد هذه المقاومة يتكون من جيلٍ كان يتشرّب العزة والكرامة في فترة اجتياح المخيم عام 2002. في السياق ذاته، ثبت أيضاً فشل عملية الاحتلال الإسرائيلي العسكرية في مخيم جنين من ردع المقاومة الفردية لأبناء الشعب الفلسطينية. يدل على ذلك وقوع عمليتين فدائيتين منفصلتين في “تل أبيب”، وقلقيلية قرب مستوطنة كدوميم.
من يعتقد من قادة الاحتلال الإسرائيلي أن الشعب الفلسطيني يمكن إخضاعه بالنار والبارود هو واهم، لذا فإن الحل الوحيد هو الحل السياسي القائم على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وغير ذلك لن يحدث هدوء واستقرار.