الشعب الفلسطيني تعلم الدرس جيدا منذ العام 1965 عندما تحول المخيم من مخيم اللجوء والمهانة لمخيم المقاتلين. (أم سعد) قالتها في رواية غسان كنفاني التي تحمل اسمها، (خيمة عن خيمة تفرق) فخيمة المهانة وذل التشرد غير خيمة تفريخ الثوار والمقاومة. مخيم جنين اليوم يعيد تأكيد ذات الدرس، فلا يرضى المخيم الركوع والاستسلام لفاشية الصهاينة وآلتهم العسكرية المهولة، بل الصمود والمقاومة والانتصار وحفْر اسمه في سجل بطولات التاريخ الوطني والعالمي، بالضبط كما في العام 2002. مخيم جنين اعتاد البطولة ويورثها لإبنائه جيلاً بعد جيل، فأية رهانات صهيونية غبية على وعي منصهر تندثر لدى جيل جديد يمتشق الإرادة سلاحاً والمقاومة نهجاً، فالكبار يرحلون والصغار يتابعون ليكفهر وجه عجوزتهم غولدامئير في قبرها. لذلك مخيم جنين ينتصر لأن وعي المقاومة تجذر في صفوف ابنائه.
منذ العام 1965 والمخيم أصل الحكاية، حكاية المقاومة والعودة. منه انطلقت الثورة المعاصرة فأعادت وضع فلسطين على خارطة العالم بقوة سلاحها، فلم يعد المخيم بطاقة الإعاشة وزيت السمك وحفنة طحين، بل طوابير تلتحق بقواعد الفدائيين. وفيه وبين أزقته في النصيرات والمغازي والشجاعية والشاطيء فرض المقاتلون بقيادة جيفارا غزة إرادتهم نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، فكان الليل لسيادتهم وقرارهم، والالتحاق بالمقاتلين مطلب شعبي. اما عين الحلوة ونهر البارد وضبية والمية مية وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة فصنعوا في العام 1982 ملحمة اسطورية في المقاومة والالتحام والتصدي رغم الإنكسار العسكري أمام آلة حرب ضخمة ومهولة، ومن جباليا انطلقت شرارة انتفاضة العام 1987 لتحتضنها مخيمات الضفة ولاحقاً أريافها ومدنها فتعم كل الجغرافيا، فكانت مأثرة سجلها تاريخ الشعوب كأبرز حركة شعبية كفاحية ضد الاستعمار. أما في العام 2002 يحول مخيم جنين أزقته وبيوته لساحات مقاومة وإرادة وكمائن فيسجل التاريخ أسماء لا تُنسى، ابو جندل القائد الميداني، طوالبة قائد السرايا، النوباني صاحب الكمين المشهور، ومريم وشاحي معدة الطعام للمقاتلين وغيرهم الكثير. واليوم يعيد مخيم جنين تأكيد اصل الحكاية وكأنه مرسوم له هذا الدور الطليعي في تاريخ رواية المقاومة التي تتحول لجزء أصيل من الرواية الوطنية. اليوم المخيم يضيف انتصاراً لسلسة انتصارات على طريق الانتصار الأعظم.
هو المخيم اصل الحكاية في كل مرحلة من مراحل القضية الوطنية وتاريخ النضال الفلسطيني حتى جاز مرحلة التاريخ الوطني الفلسطيني بتاريخ بطولات المخيم حصراً. يُعلي المخيم خطاب المقاومة أمام خطاب التسوية المذلة، خطاب روح الجماعة الوطنية المقاومة والملتحمة بالقضية، أمام خطاب الفردانية والانجاز الاقتصادي الفردي أيديولوجيا راس المال وعالم المنظمات غير الحكومية، خطاب يُعلي من صيحة الشهداء: المقاومة جدوى مستمرة،ـ أمام خطاب الضعف والعجز والتباكي على عتبات المؤسسات الدولية.
خطاب المخيم ومقاومته هو خطاب العمال والمستخدمين الفقراء الذين يعيشون شظف العيش يومياً فينحفر على جلودهم، العمال والمستخدمين الفقراء الذين انتزعوا من أرضهم كفلاحين في العام 48 وألقي بهم في مخيمات اللجوء ليصنعوا منها حكاية مقاومة وإصرار وإرادة. خطاب المخيم خطاب هؤلاء العمال والمستخدمين، مقاومة المخيم مقاومة هؤلاء العمال والمستخدمين، تاريح النضال الوطني هو بالضبط تاريخهم. هم اصل الحكاية اصلاً. خطابهم هو ذاته خطاب (أم سعد) وكأن مخيم جنين يكرّم كنفاني في ذكرى استشهاده.
وكما في انتفاضة العام 87 عندما التحقت المدن والأرياف بانطلاقة مخيم جباليا، مطلوب اليوم أن تعلن المدينة والأرياف عن حكايتها، وقطعاً ليس من باب (التضامن) فالفلسطيني لا يتضامن مع الفلسطيني، بل يكون ظهره لظهره وكتفه لكتفه، وما اتساع الاشتباك مع المحتلين منذ ليلة الأثنين الفائت لتشمل المدن والمخيمات والأرياف إلا مؤشر على الطريق الصحيح. وما دخول قطاع غزة على جبهة المعركة إلا تاكيد على أن كل فلسطين تعلن عن حكايتها.
قالت اليونان قديما في مثلها: هنا الوردة فلترقص، وهنا القلعة فلتقفز. مخيم جنين يعرف الرقص أمام الوردة حين يجب الرقص، والقفز من فوق القلعة حين يتوجب القفز، وفي الحالتين المخيم ماض لا يلوي على شيء حتى يحقق حلمه وحلم كل اللاجئين بالتحرير والعودة، لأنه بالضبط أصل الحكاية وأمل المستقبل.