يحتفي العالم في التاسع من حزيران من كل عام باليوم العالمي للأرشيف، والذي أقره المجلس الدولي للأرشيف (ICA) ومنظمة اليونيسكو عام 2007، لتعزيز الوعي العام حول أهمية الأرشيف والوثائق والمحفوظات، وتفعيل مبادرات الحفاظ عليها كونها تمثل كنوزاً للنشاط الانساني، والشاهد الموثوق في سرد أحداث الماضي وتعزيز هوية الشعوب، ويشهد هذا اليوم أيضاً تظاهرات وطنية بأنشطة عديدة ومبادرات من مؤسسات مراكز المعلومات والتوثيق بإتاحة الأرشيفات للجمهور ايماناً منها بضرورة اتاحة المعلومات انسجاماً مع مبدأ حرية الوصول للمعلومات وحقوق الانسان وفق القوانين المعمول بها في هذا المجال.
المشهد هنا في فلسطين مغاير تماماً، ومتناقض مع كل ما يتبناه العالم من قيم وأخلاقيات وحريات فالواجب الأخلاقي والانساني والديني الذي يقع على العالم ما زال يقف ويتمترس خلف سياسات المتفرج، والكيل بمكاييل مختلفة ومتناقضة مع كل ما يحكى ويكتب وينشر، هو نفسه الذي مكن الغزاة بكل الوسائل من سرقة فلسطين، ويتماشى مع ما بذله المستشرقون الغربيون الذين جابوا المشرق العربي للبحث عن الموروث الثقافي والحضاري لخدمة الاستعمار وتبديد الحق العربي ومحوه من الجغرافيا والتاريخ.
في اليوم العالمي للأرشيف نكتب لأنفسنا وللعالم لنروي ما تعرض له موروثنا الثقافي وما زال لأبشع الجرائم ضد الإنسانية، وما وثق من شهادات شفوية لشهود العيان وما كتب ووثق من كتّاب ومؤرخين الذين نجوا من الجريمة، وشهادات موثقة لمن شاركوا فيها، اضافة الى ما كتبه ووثقه العديد من المؤرخين الاسرائيليين، من باب “وشهد شاهد من أهله”، ” ومن فمك أدينك”، كل ذلك يعتبر وثيقة دامغة للحق الفلسطيني.
لم تقتصر فصول نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 على المجازر والتهجير والتشريد والابادة، وتدمير المدن والقرى وحرقها من قبل العصابات الصهيونية، بل رافق ذلك عمليات سطو ونهب أملاك وممتلكات أهل فلسطين، بغرض تفريغ الأرض من أصحابها، وبهدف دحر الرواية التاريخية الفلسطينية ومحوها من التاريخ، واحلال شعب آخر مكانه واهماً بإمكانه بناء رواية تاريخية أخرى، لم يكن كل ذلك عشوائياً بل نفذ بخطط مدروسة لسرقة الهوية الفلسطينية، بدءاً باستهداف المكان والجغرافيا والتاريخ بكل تفاصيله، الى نهب الموروث الثقافي، وما يحويه من كنوز معرفية وتراثية متجذرة في عمق التاريخ منذ آلاف السنين.
لذا بقي ينسب كل شيء فلسطيني من مأكولات وأزياء وآثار اليه ظاناً انه يستطيع تزييف وتهويد تاريخاً وثقافةً منهوبة ومسروقة لبناء رواية اسرائيلية جديدة يسوقها للعالم ويراهن على تغيير الوعي التاريخي والجغرافي والثقافي للأجيال القادمة ” الكبار يموتون والصغار ينسون”.
ومن أخطر ما واجهه الاحتلال ضمن مخططاته والذي بقي يؤرقه الى الآن كنز الموروث التاريخي والوثائقي والانتاج الفكري للفلسطينيين، فقد رافق الدبابات الاسرائيلية موظفين مختصين بالتاريخ والأرشيف لينفذوا جريمة النهب والسلب ، فجمعوا آلاف الكتب من المكتبات العامة والخاصة ومكتبات المؤسسات التربوية والمدارس والمساجد والكنائس والمتاحف والمطابع ودور السينما والموسيقى والمسارح ، ونهبوا التحف الأثرية الثمينة والتماثيل والأحجار الكريمة والمجوهرات والماس والذهب وحسابات البنوك وكل ما تطاله اليد ، كما أشار اليه المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابيه يقول: ” ان ما بين 70%- 75% من السكان الفلسطينيين قبل النكبة كانوا اغنياء بالمفهوم المادي ولم يبق لهم شيء من ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة” .
ان ما نود الاشارة اليه هنا، على وجه الخصوص حجم الجريمة التي ارتكبت وطرق اخفائها بحق الأرشيفات والوثائق التاريخية والمخطوطات والانتاج الفكري والمعرفي الفلسطيني والذي يقدر بملايين الوثائق وآلاف الكتب التي تعود الى العهد العثماني وما قبله وتمتد ما قبل 1815 _ 1917 وتشمل وثائق الحكومة والمؤسسات العامة، وتمتد أيضا من أيام الحكم العسكري للانتداب البريطاني على فلسطين (1917- 1948) بالإضافة الى أرشيفات المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية والبلديات والأوراق الخاصة لعائلات وقيادات ومثقفين فلسطينيين، ووثائق المجلس الاسلامي الأعلى ووثائق الطابو العثماني والبريطاني وسجلات السكان وأرشيفات القنصليات الألمانية والنمساوية والبريطانية والقنصليات العربية التي عملت في القدس كالقنصلية السعودية والعراقية والمصرية وغيرها وأرشيفات اللجنة العربية العليا وأرشيفات النوادي الغرف التجارية .
هذا الموروث بحجمه ومضمونه الهام منه ما حرق وأتلف والكم الأكبر رحل وحفظ في المكتبة الوطنية الاسرائيلية ومكتبة الجامعة العبرية والأرشيفات العسكرية وغير متاح للجمهور وتحت رقابة مشددة، ويحفظ في أماكن مغلقة مصنفة ب (أ.م) او (A.p) Abandoned property بمعنى أملاك متروكه. ويشير المؤرخ الاسرائيلي آدم راز في كتابه (نهب الممتلكات العربية في حرب 1948) يقول: ” هناك العديد من الوثائق التي تثبت عمليات النهب والسلب الا انها تخضع لحجب الرقابة”، وهناك العديد من الشهادات الموثقة في كتب المؤرخين الإسرائيليين مثل ميرون بني فنسي في كتابه (المشهد المقدس)، وغشيش عميت في كتابه (بطاقة ملكية)، ورونه سيلع في كتابها (لمعاينة الجمهور)، وأوري أفنيري في كتابه (الوجه الآخر من العملة)، وبني برونر في فلمه الوثائقي (السرقة الكبرى)، وتوم سغيف، وبني مورس وغيرهم.
وحول التناقض بين المهنية والديمقراطية واتاحة المعلومات الأرشيفية، قدم مدير أرشيف دولة الاحتلال عام 2018 تقريراً أثار جدلاً واسعاً في الوسط الحكومي والسياسي والأمني، حيث قال:” أن هناك العديد من المعيقات التي تمس بسير العمل السليم في الأرشيف وهي مرتبطة بمنهج كشف واتاحة المواد الأرشيفية أمام الجمهور، فالأغلبية الساحقة من المواد الأرشيفية مغلقة الى الأبد وهذا لا يليق كما يتوقع من دولة ديمقراطية” فكان رد المسؤولين على تقريره بالذرائع التالية:
1. ان كشف الحقائق قد يشكل وسيلة بأيدي اعدائنا وخصومنا ويؤدي الى اضعاف عزيمة أصدقائنا.
2. ان عملية الكشف عن الأرشيفات المحظورة يؤدي الى إلهاب مشاعر السكان العرب في البلد والأراضي الفلسطينية.
3. اضعاف حجج الدولة في محاكم البلد او المحاكم في العالم.
4. عملية فتح الأرشيفات تؤدي الى كشف معلومات قد يتم تفسيرها بأنها جرائم حرب اسرائيلية.
استمر الاحتلال دون توقف بتنفيذ جريمته بالنهب والسرقة للموروث التاريخي والحضاري من النكبة الى النكسة الى يومنا هذا ، وعلى مدار خمس وسبعون عاماً ، بقي الاحتلال الاسرائيلي يلاحق الموروث الثقافي والتاريخي لمنظمة التحرير الفلسطينية وفي الضفة الغربية وغزة والقدس ومؤسسات السلطة الوطنية والمؤسسات الأهلية بنفس الخطط والمنهجية بسبب أنه يعلم يقيناً بأن هذا الموروث هو من يحسم معركة وجدلية الرواية، لذا نصب دوماً عدائه لمحاربة هذا الأرث بالنهب والسرقة والتزوير ، أيضاً ادرك الفلسطيني منذ بداية الصراع بطبيعته وأهدافه، فعمل دوماً على جمع وحفظ وحماية موروثه بأنواعه المختلفة .
وحول التساؤلات التي تدور في الذهن دوماً، بخصوص الجهد الفلسطيني المبذول بالنسبة لاستعادة وجمع الموروث المنهوب من الاحتلال الاسرائيلي والاستعمار البريطاني والموروث المرحل والمنقول للفترة العثمانية والحقبة الاردنية والمصرية ، فان الجهد متواصل منذ سنوات بالبحث وجمع الاحصاءات وتجهيز الكشوفات والببليوجرافيات واصبح لدى المكتبة الوطنية الفلسطينية ملفاً صخماً معزز بالوثائق الثبوتية ويجري العمل عليه الآن مع الفرع الاقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف واللجنة التنفيذية العربية لدى جامعة الدول العربية لاستعادة الأرشيفات المنهوبة والمسلوبة من دول الاحتلال والاستعمار ومنظمة اليونيسكو والمجلس الدولي للأرشيف.
ورسالتنا في هذه المناسبة للمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية المهنية والقانونية، ان الاحتلال مارس جرائمه تنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم، ومارس كل جرائمه مخالفاً لكل المواثيق والاتفاقيات الدولية والقانون الدولي الانساني واتفاقية جنيف الرابعة والتي تضمنت حماية الممتلكات الثقافية وضرورة الحفاظ عليها اثناء الحرب، آن الأوان ليتحرك الضمير العالمي لمعالجة آثار الجريمة واستعادة الحقوق لأصاحبها والتوقف عن سياسات الكيل بمكيالين، ونؤكد أيضاً بأن جذوة الأمل الفلسطيني لم ولن تنطفئ، ويتجدد الأمل ويزداد التمسك بحقه الثابت، وأن الوعي راسخ بأن النكبة والنكسة وما ترتب عليها لا يزول الا بزوال الاحتلال، واليقين أن المخططات الصهيونية لن تحقق أهدافها، وذاكرة الفلسطيني تورث وستبقى تشتعل من رماد الظلم والجرائم الى أن يتحقق الحلم باستعادة الحقوق.