عاش الفلسطيني المسن شحدة طه (85 عاماً) نكبتين في حياته. الأولى كانت عام 1948 حين كان في الـ11 من عمره. أما الثانية فحدثت وهو في عامه الـ85، مطلع شهر مايو/أيار من هذا العام، حين دمّرت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزله أثناء قصفها لمنزل مجاور في قطاع غزة، لتتركه وأبناءه وأحفاده الـ19 بلا مأوى.
ما قصة الشيخ الذي شهد نكبتين وحروباً عديدة بينهما؟
يقول طه في حديثه لموقع Middle East Eye البريطاني، من أمام منزله المدمر: “قبل النكبة، كنا نعيش حياة بسيطة، معظمها في الزراعة. وحياة الناس كانت هادئة وخالية من الهموم”.
وروى طه، الذي تعود أصوله لقرية بيت لاهيا، شمال غزة، كيف كانت العصابات الصهيونية المسلحة تجبر الفلسطينيين على الفرار إلى قطاع غزة دون متعلقاتهم.
وقال: “استمعت إلى قصص تحطم القلوب عن المدنيين المطرودين، والفظائع والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحقهم، وكانوا يقتلون أي شخص في طريقهم”.
يا وجع القلب.
مُسنّ فلسطيني يبكي على أطلال منزله؛ قصفه #الاحتلال ومعه أبطال صناديد وأُسر وأطفال انتشلهم غدر الغُزاة إلى الموت.
ويقول طه إنه تزوّج في سن مبكرة من زوجته هنية، واشترى له والده سيارة أجرة، إذ كان يُسمح للفلسطينيين في السبعينيات والثمانينيات بالقيادة بحرية بين غزة ومصر ولبنان والأردن. وكان سائق تاكسي معروفاً ينقل عمال غزة إلى أماكن مختلفة داخل الأراضي المحتلة.
وحين بلغ سن التاسعة والعشرين، شنّت إسرائيل حرب النكسة، واحتلت غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان وسيناء. وأسفرت هذه الحرب عن استشهاد حوالي 20 ألف عربي، من بينهم حوالي 6000 فلسطيني.
يقول طه: “أذكر جيداً مشهد جثث رجال ونساء غزة ملقاة في الشوارع”. ونجا طه وأبناؤه بأعجوبة رغم كل هذه الصعاب. وفي أوائل الثمانينيات، أثناء قيادته لسيارته الأجرة في مدينة ريشون لتسيون القريبة من تل أبيب، أطلق جنود إسرائيليون النار عليه هو وراكب في سيارته. وأُصيب شحدة بجروح في قدميه، فيما فقد الراكب حياته.
وأضاف: “غادرت السيارة بسرعة واحتميت بالأشجار المجاورة. وبحث الجنود عني لفترة، لكنهم لم يتمكنوا من العثور عليّ. وبعد أن رحلوا، عدت إلى سيارتي كي أهرب، لكنني فقدت وعيي، وحين استعدته، وجدت نفسي في مستشفى إسرائيلي. ولحسن الحظ، سمحوا لي في النهاية بالعودة إلى غزة”.
يقول: “ما زلت لا أعرف لماذا أطلقوا عليّ النار دون أي سبب. كانت مجرد رحلة روتينية. وبعد عام، اتصلوا بي وطلبوا مني التعاون معهم. لكنني رفضت. ورغم الضغوط الكبيرة التي مارسوها عليّ، أصررت على رفضي”.
يتحدث طه عن حياته في الماضي، قائلاً: “كنت أكسب مالاً جيداً، وكنت سعيداً وغنياً. وهذا الاستقرار المادي مكنني من الزواج بـ3 نساء وإنجاب 21 طفلاً”، لكن 4 من أبنائه تُوفوا بسبب المرض في الستينيات والسبعينيات. وتوفيت اثنتان من زوجاته في العقدين الماضيين. وخلال الهجمات الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة، تعرّض منزل طه لأضرار جزئية في 3 مرات منفصلة.
النكبة الثانية في حياة شحدة طه
في 12 مايو/أيار، قصفت إسرائيل منزلاً مجاوراً لمنزل طه، وهذا ألحق أضراراً جسيمة بمنزله وجعله غير صالح للسكن. وقال من داخل خيمته: “حين رأيت أنقاض منزلي، غمرني حزن عميق وبكيت. كان ملاذنا الذي نعيش به جميعاً. والآن نحن بلا مأوى، ونعيش في خيمة أمام الركام”.
وأضاف: “انظر إلى غرفتي، لقد دُمرت بالكامل. وكل ملابسي مدفونة تحت الأنقاض. إلى أين نذهب؟ ما زلت أنتظر المساعدة من إحدى الجمعيات الخيرية لتعطينا ملابس جديدة”.
يوم 11 مايو/أيار، اتصل الجيش الإسرائيلي بنجل طه، أحمد، وأمره بإخلاء منزلهم وإخطار جيرانهم أيضاً، لأنهم يعتزمون قصف منزل مجاور. وقال أحمد (42 عاماً): “بعد أن أبلغت جيراني، اتصل بي الجيش الإسرائيلي مرة أخرى، وقالوا إنهم لم يعودوا ينتوون قصف المنزل”.
وقال أحمد، وهو يجلس بجانب والده: “لكنهم اتصلوا بي في اليوم التالي ليطالبونا بإخلاء منزلنا في ظرف 10 دقائق. كنا 53 شخصاً في منزلنا. ولجأنا إلى مدرسة قريبة تابعة للأونروا لنحمي أنفسنا”.
ثم قصف الإسرائيليون المبنى. وقال أحمد: “اتخذنا القرار الصعب بعدم إبلاغ والدي عن الدمار الذي لحق بمنزلنا. فهو مسن، وليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.
ورغم هذه الظروف، أصرّ طه على رؤية منزله، وسجلت العديد من مقاطع الفيديو رد فعله المؤلم وبكائه حين شاهد منزله المدمّر.
وقال أحمد بنبرة غاضبة: “لم نتمكن حتى من إنقاذ ملابسنا. ما الذي فعلناه لنستحق ذلك؟ نحن مدنيون فقراء بلا انتماءات عسكرية أو سياسية. والآن أصبحنا بلا مأوى. أين ستجد ابنتي المصابة بالسرطان مأوى؟ أين سنعيش؟ هل مُقدّر لنا أن نظل بلا مأوى ونعيش في ظروف مزرية؟”. وقال: “والدي عاش النكبة الأولى، والآن كلنا نعيش هذه النكبة الثانية، هذا قدرنا”.