لا نعلم بالضبط دوافع استراتيجية الرئيس الروسي بوتين في شباط 2022، عندما قرّر غزو أوكرانيا جارته وحليفة الاتحاد السوفييتي سابقا.
لقد كان الهجوم و الغزو سريعًا و بصورة مفاجئة في ظل علاقات دولية بدأت تهدأ فيها الصراعات الإقليمية التي كانت تقودها الولايات المتحدة، فقد انسحبت أميركا من أفغانستان والعراق وهُزمت شرّ هزيمة، بحيث بدا للمحللين في الشؤون الدولية أن التدخلات العسكرية قد خفّت وطأتها، وكان بوتين قد تدخّل قبلها في الشيشان وأيّد انقلابًا عسكريًا هناك صعد فيه رمضان كاديروف، كما تدخّل أيضًا في جورجيا واستطاع تثبيت نظام حكم مؤيد له بعض الشيء، وتدخّل أيضًا في كازاخستان ودعم مؤيديه الذين حاولوا الإطاحة بخلفاء نزار باييف.
أمّا أوكرانيا فقد كانت مسالة استراتيجية مختلفة له، بحيث هدّدت برؤيته مسألة الامن القومي الروسي، خاصة بعد صعود الرئيس زيلينسكي الذي بدأ بحوارات وتقارب مع الاوروبيين والولايات المتحدة للدخول في حلف الناتو ولم يأبه، و يكترث الزعماء الاوكرانيون لمخاوف بوتين واستمروا في هذه المحادثات كي تكون أوكرانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أيضًا، ولم يرق ذلك البت لبوتين الذي شعر أن سياسته الخارجية ومصالح روسيا القومية الوطنية والاستراتيجية، وُضعت في الزاوية وعلى المحكّ مع الزعماء الجُدد في أوكرانيا.
وعلينا ألا ننسى أن بوتين قام باحتلال شبه جزيرة القرم التابعة لاوكرانيا وضمّها إلى روسيا عام 2014 ، وكان يُطالب أيضًا بضمّ المناطق الشرقية المحاذية إلى روسيا، إليه وفي الرابع والعشرين من فبراير 2022 أي قبل 14 شهرًا توصل بوتين إلى قرار استراتيجي مُفاده أن عليه غزو أوكرانيا واحتلالها، بحُجة منعها من الانضمام إلى الناتو كون ذلك يشكل خطرًا أمنيًا واستراتيجيًا على الفيديرالية الروسية، إضافة إلى أن السلاح النووي الذي تملكه الناتو سوف يكون جزءًا من منظومة التسلح الاوكراني بالتعاون مع الولايات المتحدة والأوروبيين، ولا نعلم بدقة حيثيات قراره الذي توصّل إليه، لكنه شعر بثقة بالغة أدت إلى اتخاذ قرار قاطع باحتلال أوكرانيا وإخضاع نظامها السياسي في كييف .
ويجمع العديد من المحلّلين والمراقبين أنه أراد احتلال الأراضي الأوكرانية كافة، واحتلال العاصمة كييف عبر المدن الجنوبية وتطويقها وتغيير نظام الحكم كي يكون تابعا له.
وعلى الرُغم من ضخ الآلاف من الدبّابات الطائرات العسكرية ومئات الآلاف من الجنود، فانه لم يتمكّن للوهلة الاولى من الوصول إلى كييف، بل الاقتراب منها، إذ كلّفه ذلك خسائر فادحة، خاصة من الدبّابات التي إثبتت عدم نجاعتها وفعاليّتها في هذه الحرب لان الاوكرانيين أبدوا إستماتة وشجاعة قوية في مواجهة التدخّل الروسي وكبّدوا الجيش الروسي الآلاف من الضحايا، وتمكنوا من تدمير العتاد والمعدات، خاصة الدبابات التي أثبتت عدم نجاعتها ومع أنه اقترب من كييف الا انه لم يستطع احتلالها، وكان قراره بعدم الانتظار والانسحاب سريعًا وبدأ يغير استراتيجيته بالاكتفاء بتدمير البنية التحتية، المصانع والمؤسسات الرسمية ومعسكرات الجيش، ومن ثمّ القرار بالانسحاب التكتيكي وما سُمّي لاحقًا إعادة الانتشار والاكتفاء بضم مناطق في الحدود الشرقية وأهمها المدن لوغانسك، إقليم دونباس، دونيتسك، زاباروجيا و خيرسون.
ويمكن القول إنه بات من المؤكد أنه على الرُغم من الخسائر الفادحة التي تكبّدها الاوكرانيون، التي بلغت عشرات الآلاف من القتلى والملايين من المهجرين إلى أوروبا، إذ بلغ عددهم 13 مليونًا من اصل 41 مليون أوكراني غالبيتهم من النساء والأطفال .
وقد سمحت الحكومة الأوكرانية للاوكرانيين بالخروج والهجرة من البلاد تفاديًا لخطر الحرب و الموت، لكنها منعت الرجال ما بين الاعمار 18و 55 من الخروج، بل اجبرتهم على المشاركة في المجهود الحربي ضد روسيا.
هذا ويضيف هؤلاء المحللون ان بوتين ارتكب خطأً استراتيجيًا حربيا آخر عندما قرّر احتلال أوكرانيا من الجنوب وليس من الشمال الشرقي، كونه سيسيطر على البحر الأسود ومنفذ أوكرانيا إلى الحدود مع أوروبا أي بولاندا ومولدوفا.
كما أنه لم يتعلّم من اخطاء الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، لأن نشر القوات العسكرية التقليدية كالدبابات والمدرّعات والمصفّحات في أماكن سكنية مكتظة ومأهولة بالسكان، أصبحت أمرًا خطيرًا ومن الصعب تحقيق أية أهداف استراتيجية للدولة المحتلة، وهذا ما تعلّمته الولايات المتحدة بعد عشرين عامًا من غزوها أفغانستان وستة أعوام من غزوها العراق، وما نراه أيضًا على الساحة الفلسطينية، إذ بدأت إسرائيل تفقه أنّ سيطرتها على المناطق أيضًا بالسكان باتت صعبة المنال.
وكانت قد انسحبت من غزّة من طرف واحد عام 2003 وهي ما زالت تحاول السيطرة المستميتة على الضفة الغربية، بقوات عسكرية مدرّعة داخل مناطق مكتظة في الضفة الغربية ويمكن القول إن الدبّابات قد فقدت نجاعتها نهائيّا في هذه الحرب، فعلى الرُغم مِن أن إسرائيل تملك 3000 دبابة إلا انها لم تستطع حسم المعركة مع حزب الله في صيف 2006 ولم تتقدّم بالدبابات إلى مارون الراس على بعد 10 كيلومترات من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، حيث سميت المعركة آنذاك مجزرة الدبّابات الإسرائيلية التي دُمّرت بالعشرات ومُنعت من التقدم إلى لبنان.
ولم يغرق بوتين كثيرًا في الوحل الاوكراني، حيث استنتج بسرعة النتائج العسكرية وبعد معارضة قوية وشرسة للاوكرانيين الذين بدأوا ينظمون أنفسهم بسرعة، من ناحية استلام المساعدات العسكرية والاقتصادية السريعة من الولايات المتحدة وبدعم أوروبي .
فقد وصلت تلك المساعدات إلى أكثر من 45 مليار دولار في أواخر آب \ أغسطس 2022 ومن المتوقّع ان تتزايد بمليارات كثيرة اخرى هذا ويمكن القول إن بوتين بدأ يتأثّر أكثر بالعقوبات السياسية والاقتصادية ضده إلى أن وصل إلى نتيجة مفادُها أنّ الانسحاب من وسط أوكرانيا، هو الطريق الأفضل للحفاظ على هيبته خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تكبّدها الجيش الروسي .
هذا واستطاعت الحكومة الأوكرانية وفي دولة مدمرة بالكامل من حيث البنية التحتية، تجميع القوى والمتطوعين من أشلاء الجيش الاوكراني وشكلوا نواة لمقاومة الجيش الروسي .
مهما يكن، لا نعرف بالضبط أسباب الانسحاب الروسي الذي تأثر بالمقاومة الأوكرانية، خاصة في ماريو بول، زخروفا وبوخموت، وكان قرار بوتين قاطعًا بالانسحاب إلى المناطق الشرقية من أوكرانيا المحاذية لروسيا، حيث يسكنها مواطنون من أصل روسي، وضمّها مع سكانها إلى روسيا، تاركًا الحدود الأوكرانية البولندية مفتوحة على دولة أوكرانيا وهي مستمّرة في تلقّي الدعم العسكري الاقتصادي من العديد من الدول المؤيدة لها وينتظر في خِضمً هذه الأيام العديد من المراقبين الهجوم الربيعي المباغت للقوات الأوكرانية على القوات الروسية، ومن الصعب التنبؤ بأن حملة الربيع هذه سوف تنجح وتحقق أي مكاسب، فالاوكرانيون لا يريدون أي مفاوضات مع بوتين وتحاول الحكومة الصينية التوسط في ذلك،
اما بوتين فإنّه يلعب على الوقت ولا يتحرك كثيرًا في هذا الاطار سوى شن ضربات عسكرية شديدة تستهدف البنية التحتية، لإقناع حكومة زيلنسكي بأنه لا مفرّ له سوى المفاوضات والرضوخ لمطالب بوتين .
أما الولايات المتحدة وإدارة بايدن فانها معنية باستمرار الحرب، كونها تُشدّد القبضة على الأوروبيين الذين يهابون انتشار الدُبّ الروسي والاوكرانيين الذين لا يملكون الوسائل العديدة للخروج من أزمة الاحتلال هذه.