بعد الدقائق القليلة التي منحها الاحتلال للأسير الشيخ خضر عدنان خلال إضرابه المفتوح عن الطعام، للحديث من عزله في عيادة “سجن الرملة”، للمحكمة العسكرية في “عوفر”، وزوجته خرجت (أم عبد الرحمن)، من قاعة المحكمة وهي تردد كلمات رفيق دربها الذي لخص حالته قائلاً “أنا بموت”.
حين علم الشيخ خضر عدنان بتأجيل جلسة المحكمة للنظر في الاستئناف الذي قدمه محاميه للإفراج عنه بكفالة مالية لخطورة حالته الصحية حتى العاشر من مايو، أضاف عليها “حتى ذلك الموعد سأكون شهيداً”، وفور مغادرتها المحكمة أطلقت أم عبد الرحمن مرة أخرى نداءً مستعجلاً، لكافة المنظمات وأحرار العالم للتحرك قبل فوات الأوان وإنقاذ زوجها من “محاولات إعدامه واغتياله”.
وتقول زوجة الشهيد عدنان لـ”القدس” دوت كوم، “إن حالته كانت صعبة جداً، فقد تحدث ببطء ولسان ثقيل جداً، وظهر بجسده المنهك، وبدأ كأنه فاقد للقدرة على مشاهدتنا، فلم يتمكن من النظر إلينا بشكل مستمر ورؤيتنا، لكن لم يسمعنا أو يتحرك أحد”.
وتضيف: “كل مؤشرات محاولة اغتياله ظهرت بشكل واضح من الجلسة السابقة في عوفر، فقد تعرض للإغماء عدة مرات، والاحتلال منعنا من زيارته، وحظر على كافة المؤسسات الوصول إليه والاطلاع على وضعه، في ظل العزلة والضغوط والعقوبات التي لم تتوقف منذ إعلانه معركته الجديدة منذ اعتقاله من منزلنا”.
أم عبد الرحمن، التي واكبت محطات اعتقال زوجها على مدار السنوات الماضية، ورافقته في معارك الأمعاء الخاوية الخمسة التي خاضها سابقاً، فقادت حملات الدعم والتضامن معه، واحتفلت معه بانتصاراته، تروي، في الساعات الأولى بعدما تلقت نبأ استشهاد الشيخ خضر فجر اليوم ال87 من إضرابه، أنها منذ تركته في قاعة المحكمة يوم الأحد المنصرم، “توقعت استشهاده، فقد كان في حالة صعبة، ولم يكن لدى جسده الذي شاهدته منهك ومتلاشي، أن يحتمل أكثر أو نعول عليه كثيراً، وأصبحت كلما رن جرس الهاتف، أعيش كوابيس قلق وتوتر ومخاوف، أن يحمل لي خبر استشهاده”.
فجر الثلاثاء، أعلنت مصلحة السجون الإسرائيلية استشهاد الشيخ خضر عدنان في زنزانته، وسرعان ما تلقت عائلته وزوجته الخبر، لتمتزج المشاعر وتتعدد الصور، وتقول أم عبد الرحمن: “انتابني شعور مؤلم فور سماعي النبأ، وبصراحه لم أصدق، قلبي لم يصدق وحتى اللحظة، لا زلت أعيش مشاعر متناقضة أصدق ولا أصدق، فليس من السهل على قلوبنا وحياتنا، أن نستوعب مسألة خسارة الإنسان الذي يعني لنا كل شيء في الحياة”.
وتضيف: “أكرمني رب العالمين بالصبر، ونشعر بفخر واعتزاز ببطولاته وصموده وصبره وجهاده في سبيل الله والحق، فدوماً تمنى وطلب الشهادة”.
وتكمل: “نسأل الله تعالى أن يكون اختار له الأحسن وارتاح، رغم الحسرة على بعده وألم الفراق ليس بالسهل، خاصةً وأننا نتحدث عن بطل مثل الشيخ خضر، فمهما حكيت وقلت لا يوجد في قواميس اللغات مصطلحات وكلماتي ومعاني لوصفه، الله يرضى ويحن عليه ويتقبله في عليين”.
في منزل الشهيد الشيخ خضر عدنان في عرابة جنوب غرب جنين، جلست زوجته وأطفاله وسط صوره، يحيط بهما الأهل والأقارب والأصدقاء ونساء بلدته، والعائلة وكل من عرفه وعاشره وأحبه، ممن حضروا لمؤازرتها ودعمها، فوجدوها في حالة ثبات وصمود وتحدي وصبر.
فمتى شاهدت (أم عبد الرحمن) زوجها خضر آخر مرة، وماذا كانت آخر كلماته لها؟، تجيب: “يوم الأحد في قاعة المحكمة وعبر الفيديو كونفرس شاهدته، رغم وجع الجسد وألمه ما زال شامخاً وصابراً وصامداً، أطلق نداءه ليحذر من موته واغتياله، لكنه لم ينسى وصيته لي، قال “دير بالك على حالك والأولاد يا أم عبد الرحمن، وانقطع البث”.
وتضيف: “خرجت وأنا أردد وأتضرع لله وأقول حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم أربط على قلوبنا، فقد شعرت فعلت أنه سوف يستشهد، وأقول الحمد الله رب العالمين، يا رب ما خلقنا فيه لا قدم ولا يد كما كانت تقول والدته رحمها الله، أنت تكفل فيه واحميه بحمايتك واختر له الأحسن”.
وتابعت: “كنت أجلس على سجادة الصلاة، وأدعوا الله أن يمنحه الراحة والسكينة والطمأنينة، فقد كان يتعذب ويتألم بشكل كبير، لكنه تمتع بالإرادة والشجاعة والصبر دوماً، حتى ارتقى شهيداً، محققاً أقصى أمنية طلبها طوال حياته”.
انتظار الجثمان ..
بصبر ورباطة جأش، وتحدي ممزوجة بالفخر والاعتزاز برفيق دربها، الذي أنجبت منه 9 أبناء، منعت أم عبد الرحمن النساء من البكاء، وقالت: “لن نستقبل المعزين بالشيخ خضر، ولن يكون في منزلنا بيت عزاء، بل نستقبل المهنئين بفخر واعتزاز بشهادته والمكرمة التي منحها رب العالمين إياها، ولكن في قلوبنا غصة، بسبب عدم معرفتنا مصير جثمانه”.
وأضافت: “ننتظر ونتمنى أن تنجح الجهود في إلزام الاحتلال بالإفراج عن جثمانه الطاهر، ومنع أسره في مقابر الأرقام وثلاجات الاحتلال الذي ارتكب جريمة إعدامه واغتياله”.
وتابعت: “نطالب يمنع المساس به وتشريحه كما طالبنا بوصيته، وأن نستقبله استقبال الشهداء العظام، ويواري الثرى لجانب جثمان والده في عرابة ورفاق دربه الشهداء، وسنبقى نكافح ونعمل حتى نراه ونعانقه ونزفه بما يستحق وتمنى”.
رسائل الزوجة ..
منذ إعلان نبأ استشهاد زوجها، حرصت أم عبد الرحمن على رعاية أطفالها ورفع معنوياتهم وشحنهم بالعزيمة والصبر، وقالت: “لن ننتظر من أحد إعادة جثمان الشيخ الذي خلف 9 من الأبناء، لن يهدأ لنا بال ولن تكل لنا روح حتى نعيده إلينا، ونكمل مسيرته وطريقه التي اختارها”.
وأضافت: “رسالتي للاحتلال لن تنال من عزيمتنا، وسنبقى مثلما علمنا وربانا الشيخ خضر، فحياته ودمه غالي وليس رخيصاً بالنسبة لنا، إنه يساوي كل الدنيا، ونسأل الله أن يعينني على تربية أبنائه، وأن يزول الاحتلال قبل أن يكبروا، ويتحقق حلمه وكل الشهداء”.
محطات من حياته ..
ينحدر الشهيد خضر عدنان محمد موسى، من بلدة عرابة جنوب غرب جنين، والتي أبصر النور فيها بتاريخ 24-3-1978، ولد من الأشقاء ثلاثة وشقيقة واحدة، تعلم في مدارسها، وانتسب في ريعان الشباب لحركة “الجهاد الإسلامي”، برز دوره في بداية انتفاضة الأقصى، فأصبح الناطق باسم “الجهاد” في الضفة الغربية، فتعرض للمطاردة ومحاولات الاغتيال والاعتقال عدة مرات، وقضى في السجون الإسرائيلية عدة سنوات، ورغم ذلك أكمل دراسته الجامعية، فنال البكالوريوس ثم درجة الماجستير من جامعة بيرزيت ثم القدس أبو ديس.
رغم اعتقالاته وملاحقته، تزوج وأسس عائلة ورزق بتسعة من الأبناء والبنات، أصغرهم يبلغ من العمر سنة ونصفاً وأكبرهم عبد الرحمن (14 عاماً)، وإضافة لدوره الجهادي ونضاله المستمر، افتتح مخبزه الخاص في بلدته عرابة، وشكل مصدر المعيشة لأسرته التي ساندته في كافة معاركه مع الاحتلال الذي اعتقله بعد شهرين من زواجه، وقضى عام ونصف وتحرر.
خلال انتفاضة الأقصى عام 2004، خاض إضرابًا مفتوحًا عن الطعام لمدة 12 يومًا، نتيجة وضعه في عزل سجن “كفار يونا”، ولم يوقف إضرابه إلا بعد أن رضخت إدارة السجن لمطلبه المتمثل بنقله إلى أقسام الأسرى العادية، ومع تكرار استهدافه واعتقالاته خاض عدة اضرابات وتمكّن من نيل حريته ومواجهة اعتقالاته التعسفية المتكررة.
فخلال اعتقاله في عام 2012، فجر معركة الأمعاء الخاوية ضد الاعتقال الإداري، وخاض إضرابًا استمر 66 يومًا، وبعد عدة جلسات قضائية وحملات تضامن إثر انهيار حالته الصحية، قررت المحكمة “العليا الإسرائيلية” الإفراج عنه في نيسان من نفس العام، بعد تدهور حالته الصحية.
ومع اعتقاله الجديد، عام 2015 خاض إضراباً عن الطعام لمدة 56 يومًا، بدأه في 8 أيار 2015، ضغطًا على السلطات الإسرائيلية للإفراج عنه والتعهد بعدم اعتقاله إداريًا، وتم لاحقًا الإفراج عنه، إلا أنه تم معاودة اعتقاله، وخاض إضرابًا في عام 2018 لمدة 59 يومًا، قبل أن ينتزع حريته، وفي عام 2021 خاض إضرابًا مماثلاً ل 25 يومًا.
وخلال فترات اعتقاله، تعرض خضر عدنان للتحقيق والتعذيب والعزل في مراكز التحقيق الإسرائيلية وخاصة الجلمة وبيتح تكفا، ورغم ذلك يجسد حالة صمود والتحدي رغم تعرضه أثناء فترات إضرابه عن الطعام للتهديدات بالقتل تارة، وبإجباره على التغذية القسرية تارة أخرى، وحتى في أخر أيام إضرابه الأخير قبل أن يرتقي شهيداً في الإضراب السّادس الذي يعتبر أطول معركة أمعاء خاوية يخوضها.
وخلال السنوات الماضية، توفيت والدته ثم والده مما كان تأثير كبير على حياته لعلاقته الوطيدة معهما، وكتب في وصيته، مطالباً بدفنه لجانبهما في مسقط رأسه بلدة عرابة.