يمكن اعتبار ما حدث من تطوّرات داخل حزب الليكود الإسرائيلي منذ خطّة فك الارتباط أحادية الجانب عن قطاع غزّة، والتي جرى تنفيذها عام 2005، من أبلغ الإشارات الدالة على عملية تحوّل الحركة الصهيونية إلى أسيرة مشروع ديني ينفي عنها صفتها التنويرية والعلمانية التي حملتها في خطابها، كما أكّد مرارًا المفكّر عزمي بشارة.
وبالإمكان إثبات ذلك من خلال استعادة أبرز وقائع تلك الفترة التي تولى فيها زعامة الليكود رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، أريئيل شارون، ويبقى في مقدّمها خسارة شارون في الاستفتاء على خطّة فك الارتباط بين صفوف المنتسبين إلى الليكود، وخسارته في مؤتمر هذا الحزب حيال مسعاه إلى توسيع قاعدة حكومته الآيلة إلى السقوط لجهة ضمّ حزب العمل إليها.
ومما جرت الإشارة إليه في حينه أنّ ثمة صراعًا على “البرنامج السياسي”، داخل الليكود ذاته في جهة، وفي جهة أخرى هناك صراع بين أوساط في الليكود وأحزاب اليمين المتطرّف، أحزاب “أرض إسرائيل الكبرى”.
هذا الصراع أجمله وزير السياحة الاسرائيلي السابق، وأحد أقطاب حزب الاتحاد القومي (سلف حزب الصهيونية الدينية الحاليّ)، بني ألون، بقوله إنه صراع بين من وصفهم بأنهم “أصحاب النزعة الأمنية” (بزعامة شارون نفسه) و”أصحاب النزعة العقائدية”، من دون أن يعني ذلك، في العمق، إسقاط الصبغة العقائدية الصهيونية عن أصحاب النزعة الأولى.
وتسبّب ذلك بطرح سؤال “صميميّ” فحواه: هل يشكّل ما هو حاصل ارتفاعًا في منسوب نفوذ أصحاب النزعة الثانية، على حساب انخفاض نفوذ أصحاب النزعة الأولى في عملية اتخاذ القرار الإسرائيلي؟ ورأى بعضهم أن هذا هو ما ستُبديه الأيام المقبلة بعد الخطة المذكورة بوضوح أكبر. وبرأي أحد المعلقين، “شارون اليوم (عام 2005) يجد أمامه ليكودا لا يعرفه”. وربما أن الليكود الذي أقيم ونشأ بقراءته على أنه حزبٌ وحركة علمانية قومية، يتحوّل بسرعةٍ إلى حركةٍ قوميةٍ دينيةٍ بفعل دور المستوطنين فيه. وكان هذا أحد أسباب شروع بعض المعلّقين الإسرائيليين في الحديث عن “ليكودٍ أشدّ تطرفًا”، وسبب تصريح الوزيرة المقرّبة من شارون، تسيبي ليفني، بأن الليكود وقع “في قبضة أيادٍ معادية”!
ولم تكمن المعارضة الشديدة تجاه تلك الخطّة فقط في نظرة القوى الدينية إلى قطاع غزة بوصفه جزءا من أرض إسرائيل التاريخية التوراتية، وإنما كانت أيضًا مرتبطةً، إلى درجة كبيرة، بخشية الجمهور ذاته من استمرار سياسة الانفصال عن مناطق أخرى في الضفة الغربية من طرف من اعتُبرت بأنها “إسرائيل العلمانية” والتي كانت تبدو، في نظر قسم منهم، منحرفة عن قيم يهودية أساسية.
وهو انحرافٌ بدأ بالانسحاب من سيناء، ففي أوج المعركة ضد هذا الانسحاب، مطلع ثمانينيات القرن الفائت، نشر الحاخام إيلي سدان، أحد منظّري الصهيونية الدينية، مقالًا تحت عنوان “لنؤسّس من جديد الدولة اليهودية”، دعا فيه إلى التخلّي عن الفهم الصهيوني الذي يرى في أرض إسرائيل “ملجأً أمنيًا فقط”، ولا يرى فيها “فرضًا أو هدفًا دينيًا”. وقبله بنحو عقد، كتب منظّر آخر من التيار نفسه في صحيفة المستوطنين “نكوداه” أن “تعاون الصهيونية الدينية مع الصهيونية العلمانية أفلح في الاستمرار طالما تبنّت الصهيونية العلمانية بصورة واضحة فكرة الوطنية اليهودية. وعندما اتضح أن دولة إسرائيل ليست إلا دولة علمانية ديمقراطية لا يوجد لليهودية مكان في سياستها، شكّل هذا خيانةً لجذور الحياة اليهودية، حتى وإن كان ذلك من جانب من يتحدّثون العبرية”.
على هذه الخلفية الأيديولوجية، ارتفع بمرور الأعوام عدد ممثلي “مستوطنات يهودا والسامرة وغزة” في الكنيست، غالبيّتهم الساحقة متدينة. ورسالة هؤلاء الواضحة هي كما صاغها أحدهم: نحن أعضاء الكنيست من سكان “يهودا والسامرة وغزة” وحلفاءنا الأيديولوجيين الذين يسكنون داخل الخط الأخضر لا يمكننا التسليم بالخطوات التي تحوّل إسرائيل تدريجيًا إلى دولةٍ علمانيةٍ ديمقراطية، ونطالب بأن تكون القومية اليهودية أو الدين اليهودي أو الاثنان معًا جزءًا أساسيًا من الدولة!