يتشدق الساسة الإسرائيليون على اختلاف توجهاتهم ورتبهم ، يمين ويسار، بزعمهم الدائب والمستمر بالمحافظة واحترام ” الوضع الراهن” status quo في المسجد الأقصى المبارك. وغدا هذا الأمر اسطوانة مشروخة ممجوجة لتبرير السياسة الإسرائيلية الإستيطانية للخروقات الإسرائيلية الحكومية وغير الحكومية في المسجد الأقصى المبارك.
بدأ استعمال هذا اللفظ اللاتيني ستاتوس كو في أيام الدولة العثمانية، حينما أصدرت فرمانا في عام 1757 ، ليقرر استمرار الوضع الراهن أو القائم بين الطوائف المسيحية نتيجة خلافاتها في كنيسة القيامة في القدس والمهد في بيت لحم، ثم تم التأكيد عليه في عامي 1852 و 1853 والباقي احترامه ليومنا هذا بين الطوائف المسيحية المختلفة. وقد اختل أيام الإحتلال الإسرائيلي في موضوع الأقباط والأحباش الذي اتخذ صفة سياسية وليس قانونية، في وقت العداء مع جمهورية مصر العربية والعلاقات الكاملة مع هيلا سيلاسي امبراطور الحبشة وتدخل القضاء الإسرائيلي فيه عبر محكمة “العدل” العليا الإسرائيلية لمناصرة الحليف الحبشي.
بعد ذلك اعترفت الدول الأوروبية عبر مؤتمر باريس بهذا الفرمان، وقررت معاهدة برلين عام 1878 اعتماد ” الوضع الراهن ” بأن قررت في المادة 62 منها، أنه لا يمكن إدخال أي تعديلات على الوضع الراهن على الأماكن المقدسةجميعا، بحيث تشمل كل الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية واعتبرت المسجد الأقصى المبارك مقدس إسلامي وللدولة العثمانية الحق في إدارته وإعماره. وورثت هذا الإلتزام دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
وبذا غدا ” الوضع الراهن ” جزءا من القانون الدولي العرفي ، وهو يعني” بقاء الأمور الراهنة في منطقة ما أو القائمة على حالها ولا تمس تعديلا أو تغييرا أو إلغاء “، وبخاصة بالنسبة للوضع الإجتماعي و/ أو السياسي و/أو الديني و/ أو الإجتماعي و/ أو العسكري . وعلى جميع الدول احترامه وتطبيقه، بل غدا الوضع الراهن أقوى من جميع القوانين الداخلية ويسمو عليها إذا حصل نزاع بين القانون الداخلي وما يسمى بالوضع الراهن أو القائم.
وبقي الوضع الراهن في الأراضي المقدسة ” فلسطين ” على حاله بعد سقوط الدولة العثمانية والإحتلال البريطاني لفلسطين، مدعية بريطانيا احترامها للوضع القائم في الأماكن المقدسة والحرية الدينية، إلى أن جرت المنازعات الدموية بين اليهود والمسلمين حول حائط البراق الذي هو الحائط الغربي للمسجد الأقصى، ويشكل جزءا لا يتجزأ من المسجد الأقصى، ذلك أن المسجد الأقصى هو 144 دونما بمافيه قبة الصخرة المشرفة ومصلى باب الرحمة والمصاطب واللواوين والأرصفة والمسطحات والقباب والأبواب وغيرها داخل هذه المساحة. وهو ينصرف لهذا الفهم في كل هذه المقالة.
إثر ذلك وقدوم لجنة عصبة الأمم وتقديم توصياتها بعد أن استمعت ومحصت الموضوع، قررت أن حائط البراق ملكية إسلامية خاصة وللمسلمين وحدهم الحقوق العينية فيه كاملة غير منقوصة، وأن صلاة اليهود أمامه هي على سبيل الرخصة من المسلمين لليهود وبالتالي حظرت على اليهود نفخ البوق ووضع الطاولات والستائر وتنظيف الحائط أو ترميمه. وقامت حكومة الإنتداب البريطاني بتبني تقرير عصبة الأمم عبر تشريع انتدابي بريطاني ملزم عام 1931. ولم يتم إلغاء هذا القانون البريطاني ليومنا هذا وتجاهلت تطبيقه السلطات الإسرائيلية.
بعد عام 1967 واحتلال القوات الإسرائيلية لمدينة القدس وضمها، ورغم احتلالها للمسجد الأقصى والأماكن الدينية المختلفة، إلا أنها زعمت ابتداء أنها تحترم الوضع القائم الراهن قبل عام 1967.
وساعد على ذلك فتوى دينية يهودية أرثوذكسية حظرت على اليهود الدخول للمسجد الأقصى بناء وفناء. بل قامت السلطة الإسرائيلية – ذرا للرماد في العيون – بإصدار قانون لحماية الأماكن المقدسة وفوضت وزير الشؤون الدينية بتحديدها، حيث حدد 135 موقعا دينيا كلها يهودية بامتياز.
وجاءت قرارات الأمم المتحدة متعاقبة، سواء من الجمعية العامة للأمم المتحدة أو من مجلس الأمن تأكيدا لمفهوم القانون الدولي العرفي للوضع الراهن الذي اشرنا إليه آنفا. فقد اصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبكرا قرارها الأول رقم 2235 عام 1967 حيث اعتبرت جميع التدابير الإسرائيلية في القدس باطلة ودعت إسرائيل إلى إلغائها والإمتناع عن إتيان أي عمل من شأنه تغيير المركز القانوني لمدينة القدس. أما مجلس الأمن فاصدر قراره رقم 252 عام 1968 حيث اعتبر جميع الإجراءت الإدارية والتشريعية والأعمال التي قامت بها إسرائيل في القدس باطلة ولاغية ودعا المجتمع الدولي إلى إبطالها. وتوالت القرارات المؤكدة للسابقين.
في البداية تولت دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة للمملكة الأردنية الهاشمية تطبيق الوضع القائم على المسجد الأقصى ( المسجد ) وأنزل العلم الإسرائيلي عن سارية المسجد رغم استيلائهم على المدرسة التنكزية وحائط البراق، وكلاهما يشكلان خرقا فاضحا لقاعدة الوضع الراهن.
ورغم ذلك تولت دائرة الأوقاف مشكورة حراسة المسجد، وتعيين حراسه وتمويلهم ودفع رواتبهم، وترتيب المكان وفتحه وإغلاقه وتحديد ساعات ذلك ، وتولت ترميمه وتنظيفه, وبخاصة بعد حريق منبر صلاح الدين في عام 1969. وقامت الأوقاف الإسلامية بتحديث ما لشبكة الكهرباء والماء بل رممت الجامع المرواني وكثير من المرافق الحيوية للمسجد دونما استئذان من السلطة الإسرائيلية المحتلة وفقا لمبدأ أو قاعدة الوضع الراهن. والحقيقة أن سجالا حادا وساخنا كان يجرى بين الأوقاف والسلطة الإسرائيلية وبلدية القدس الإسرائيلية برؤسائها المتعاقبين، التي كانت تحاول بشتى السبل إظهار سطوتها وسيطرتها التي أسمتها سيادة مزعومة لها ولو في أمور صغيرة.
لكن الأمر بدأ يأخذ منحى آخروخطيرا بعد عام 2000، وتحديدا بعد الزيارة المشؤومة لارييل شارون.
فقد بدأت قوات الأمن الإسرائيلية على اختلافها التدخل في المسجد فوضعت نقطة شرطية داخل المسجد، ووضعت كتائب شرطية لتراقب الوضع الداخلي في المسجد على ابوابه كافة، فتسمح لمن تشاء بالدخول وتحظر من تشاء، وتقوم بمراقبة أي شيء سواء من مواد البناء أو للترميم أو للأغراض الأخرى حظرا وجوازا. بل سيرت دوريات شرطة داخل المسجد، وفحصت الداخل والخارج وحظرت وسمحت بالدخول، واستبقت هويات البعض، واستدعت للتحقيق اساتذة وموظفي أوقاف وطلاب علم ودين وحراسات وحظرت عليهم الدخول للمسجد بل أبعدتهم عن المسجد أياما واسابيع واشهرا إناثا ورجالا. وواصلت تلك الخروق للوضع الراهن بحيث اقتحمت البناء وداست على سجاده وأرضه ببساطير رجال أمنه.
ولاحقت المسلمين وضربوا المصلين والمعتكفبن مما تسبب في إيذائهم، وعاثوا في العيادة الطبية فسادا، وحطموا الشبابيك المزخرفة التي تعتبر تراثا فنيا دينيا . ألا يعتبر ذلك خرقا فاضحا للوضع الراهن القائم في المسجد، أم يعتقدون أننا على درجة من السذاجة بحيث لا نفهم ولا نميز الوضع الراهم عن غيره من التصرفات. وفي الحقيقة تصرفات رجال الأمن الإسرائيلي ليست خرقا فقط للوضع الراهن بل تشكل جرائم بالمعنى الدقيق للقانون الجنائي الدولي، ولو كان كريم خان مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية نزيها وأمينا على ميثاق روما لفتح تحقيقا جنائيا فيما جرى في المسجد من اعتداءات ضد المصلين والمصليات والمعتكفين والمعتكفات.
هذه تصرفات عدوانية تخرق الوضع الراهن بشكل لا يقبل الجدل ولن تؤدي إلا إلى مزيد من سفك الدماء ولن تؤدي إلى بناء هيكل، ولا تقسيم المسجد لا زمانيا ولا مكانيا. بل إن اقتحام المستوطنين يوميا للمسجد بغض النظر عن عددهم وصلواتهم وحركاتهم وتراتيلهم ” وسجودهم الملحمي ” ورقصهم، لهو خرق خطير للوضع الراهن بحسب فهم القانون الدولي العرفي والمكتوب.
الوضع الراهن يشمل من ضمن ما يشمل الحرية الدينية ضمن الوضع القائم قبل الحرب، status quo ante bellum وهذا يشمل، حرية المصلين في جميع أوقات اليوم صباحا ومساء وفق الترتيبات التي تقوم بها الأوقاف الإسلامية وليس ضمن أبواب شرطية إلكترونية . وهذا يشمل حق جميع المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم الولوج للمسجد والصلاة فيه، الزمن الذي يرغبون بدون قيد أو شرط وليس من حق أحد أن يعترض طريقهم. فالوضع القائم يمهد لحرية العبادة المطلقة ويسمح لجميع المسلمين الحج للمسجد وإقامة صلواتهم فيه سواء من الضفة الغربية أو من قطاع غزة أو من الأردن أو غيرها من الدول. ومن حق المسلمين أن يحملوا مطبوعاتهم وكتبهم وحاجياتهم في باحات المسجد دونما رقابة.
الوضع الراهن يتمثل أيضا في الحفريات والصيانة والترميم، وهذا أمر خرقته السلطات الإسرائيلية باستمرار ومصرة على خرقه في كل المناسبات والظروف. فمن حق الأوقاف الإسلامية إجراء الحفريات التي يقتضيها عملها في الأماكن التي تريد أو تتطلبها الحاجة أو الضرورة الدينية أو الأثرية. هذا فضلا عن أن الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد أمر محظور ليس وفقا لقاعدة الوضع الراهن بل وفقا لميثاق لاهاي لعام 1954 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 واتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907. وقد أكدت اليونسكو في قرارها عام 2016 وما تلاها من قرارات.
من أجل إضعاف المركز القانوني للمسلمين في المسجد عمليا، حظرت السلطة المحتلة الإسرائيلية أية تجديدات كهربائية ومائية وأية ترميمات بعد احتلال طويل الأجل استمر خمسة عقود ونيف، وما زالت السلطة المحتلة تحظر مثل هذه الإجراءات الحيوية للمسلمين وتعبدهم للضغط عليهم وللتضييق عليهم مع أن هذه الأمور من لزوميات الوضع الراهن كما رسمه فقهاء القانون الدولي العرفي. فبعد خمسة عقود ونيف من الإحتلال الإسرائيلي، يحتاج المسجد حلة جديدة من الإضاءة والتهوية والإنارة والمياه والتدفئة والتكييف والمصارف والبلاط والزراعة والمظلات والمصاطب والعيادات والمطافىء ودورات المياه وصنابير الماء للوضوء والمرافق الحيوية. وكل ما ذكر ضرورة ماسة لتطبيق ما يسمى بالوضع الراهن، وليس ما يجتزئه السياسيون الإسرائيليون .
المعنى الحقيقي للوضع الراهن أو الوضع القائم هو ما كان قبل عام 1967 سائدا في المسجد الأقصى المبارك من تصرفات المسلمين بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو لغتهم أو لونهم، يتمتعون بالحرية الدينية في صلواتهم ويقيمون أدعيتهم وأناشيدهم ، يمارسون أمنهم وصيانة مسجدهم دون إذن من أحد تحت رعاية دائرة الأوقاف الإسلامية في جميع مرافق المسجد القصى المبارك بناء أم خلاء، مسقوفة أو غير مسقوفة، في 144 دونما، وما عدا ذلك فهو تضليل وتلاعب في الألفاظ، فالحق لا يقاوم سلطانه وهو منتصر على الباطل والطغيان لا محالة!!!