المظاهرات في إسرائيل المتواصلة للأسبوع العاشر ضد التعديلات القضائية الذي تسعى حكومة نتنياهو لتمريرها تُشغل وسائل الإعلام العالمية واهتمام عديد الدول، مع صمت رسمي فلسطيني وحالة من اللامبالاة تجاه ما يجري في إسرائيل بل وصل الأمر بالبعض للمراهنة على حرب أهلية داخل دولة الكيان، وحتى بالنسبة لفلسطينيي الداخل لا يوجد موقف موحد وتسود حالة ارتباك وتردد ما بين المشاركة في الاحتجاجات أو عدمها مبررين الاستنكاف عن المشاركة أنهم لا يلمسون اهتماما من المتظاهرين اليهود بحال الفلسطينيين في الداخل وأن الصراع هو بين قوى يهودية صهيونية. في نفس الوقت يُلاحظ حالة غياب لأي نقاش أو حراك سياسي فلسطيني يتعلق بالشأن العام الفلسطيني سواء فيما يتعلق بالمصالحة والوحدة الوطنية أو باستراتيجية لمواجهة تداعيات التحولات في الكيان الصهيوني.
هذا الغياب لا يتعلق بالأحزاب فقط بل حتى غالبية المثقفين والكُتاب انشغلوا بما يجري في الكيان الصهيوني أكثر من انشغالهم بما يجري في النظام السياسي الفلسطيني من حالة انهيار وتفكُك بل استطاع العنصري المتطرف وزير المالية الصهيوني سموترتش بتصريحاته المتطرفة جر الجميع لجدل عقيم حول الصراع الديني في وعلى فلسطين وخزعبلات الرواية الدينية اليهودية والحديث عن دولة إسرائيل من النيل للفرات الخ، في تجاهل أن الرواية الدينية اليهودية المزعومة والتوراة المحرفة ليسا من أسَّسَ دولة إسرائيل وليسا مصدر قوتها راهنا، بل إن قوتها مستمدة من ذاتها كدولة متفوقة عسكريا وتكنولوجيا و صناعيا وعلميا وقادرة على كسب الحلفاء من حولها بما في ذلك أنظمة عربية، كما أن هذا اليمين العنصري الفاشي نمى وترعرع في ظل حكومات صهيونية علمانية وديمقراطية.
قد يقول قائل إن ما يجري شأن إسرائيلي داخلي وصراع على السلطة وهوية وطبيعة النظام بين قوى صهيونية ومن الحكمة عدم التدخل فيه سواء من خلال مشاركة فلسطينيي الداخل بالمظاهرات أو من خلال تصريحات ومواقف من السلطة والأحزاب الفلسطينية لدعم فريق على حساب فريق آخر، وهذا كلام صحيح ولكن المطلوب خلق جدل داخلي ووضع استراتيجيات عمل لمواجهة قادم الأيام لأن الواقع يقول بأن الفلسطينيين سيتأثرون سلبا من التعديلات في النظام القضائي و سيكونون ضحية لما ستؤول إليه الأمور، سواء باستمرار حكومة نتنياهو ونجاحها في تمرير التعديلات القضائية أو بتأجيلها أو التراجع عنها، أو في حالة انهيار حكومة نتنياهو واللجوء الى انتخابات مبكرة.
إن كنا نتمنى انزلاق الأمور لحرب أهلية ونهاية الدولة العبرية كما تنبأ بعض اليهود مستشهدين بأساطير (دولة اليهود) التي لم تعمر تاريخيا أكثر من ثمان عقود، إلا أن السياسة لا تحكمها التمنيات بل الوقائع على الأرض، والواقع يقول بأن المظاهرات وردود الفعل الدولية وخصوصا الأمريكية الغاضبة أتت أكلها وهناك مؤشرات على تراجع نتنياهو عن تعنته مثل تراجعه عن إقالة وزير الحرب غالانت وتأجيل التصويت على التعديلات في الكنيست كما أن حزب الليكود نفسه يشهد حالة تمرد وعدم رضا عما يجري، وفي اعتقادنا أن الأمور لن تصل لحد الحرب الأهلية في إسرائيل ، خصوصا أن نتنياهو حصن نفسه من أي متابعات بتهم الفساد بعد تمرير تشريعات في الكنيست تؤمن له ذلك.
نعم، على الفلسطينيين التخوف مما يجري في دولة الكيان وعلى الأحزاب والسلطتين الخروج من موقع المتفرج، صحيح أن شرخا كبيرا أصاب المجتمع الصهيوني وهناك نفور وحالة صراع داخلي غير مسبوق بين المتدينين والعلمانيين حول نظام الدولة وهويتها الدينية، ولكن في نفس الوقت هناك شبه إجماع فيما يتعلق بإنكار الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة، وأي مصالحات أو توافقات إسرائيلية داخلية سيدفع ثمنها الشعب الفلسطيني.
بعض النظر عما ستؤول إليه الأمور في دولة الكيان مطلوب من الفلسطينيين وخصوصا الطبقة السياسية تجاوز مواقفها وسياساتها البائسة الحالية المتمثلة بخطابات الاستنكار والإدانة ومناشدة العالم بالتدخل أيضا تجاوز التهديد بالرد بالصواريخ من قطاع غزة والارباك الليلي، تجاوز كل هذه السياسات والمواقف التي أصبحت تثير سخرية العالم واحتقار الشعب إلى موقف وطني موحد في مستوى المخاطر والتهديدات الوجودية، موقف واستراتيجية عمل تنطلق من الإحساس بالمسؤولية الوطنية وأن ما تتعرض له القضية اليوم لا يقل عن نكبة 1948 وهزيمة 1967.
تتجلى المخاطر التهديدات القادمة للشعب والقضية في الأمور التالية:
1- بالرغم من كثرة عدد المتظاهرين وتعدد انتمائهم إلا أن حكومة نتنياهو تمثل الأغلبية وهي أغلبية دينية عنصرية فاشية.
2- قد يلجأ نتنياهو وتحالفه المتطرف للتهرب من الأزمة الداخلية وللتغطية على تراجعه في تمرير التعديلات القضائية لتفجير الأوضاع في الضفة والقدس بإجراءات متهورة غير مسبوقة قد تحدث خلال شهر رمضان أو قبل الدورة التشريعية القادمة، وما جرى يوم الأربعاء في المسجد الأقصى مجرد بروفة لما هو أكثر خطورة.
3- بالرغم من أن المحكمة العليا جزء من المنظومة الصهيونية إلا أنها كانت تحد بعض الشيء من تغول المستوطنين على الأراضي الفلسطينية.
4- نجاح خطة إصلاح القضاء سيعزز موقف حكومة نتنياهو ومخططات بن غقير وسموترتش بالسيطرة على كل أراضي الضفة.
5- تمرير الإصلاح القضائي ونجاح التحالف الحكومي في فرض إرادته سيضع
حدا لكل المراهنات على التسوية السياسية العادلة وحل الدولتين.
6- التخوف الأكبر أن يتم تسوية الخلافات من خلال حلول وسط تعزز هيمنة اليمين المتطرف مع الحفاظ على استقلالية مؤسسة القضاء وفي هذه الحالة ستخرج دولة الكيان الصهيوني أكثر قوة.
7- تشكيل ما يسمى “الحرس الوطني” تحت قيادة المتطرف بن غفير يعني توحيد وشرعنة الجماعات الإرهابية الصهيونية وإضفاء طابع رسمي عليها وستكون مهمة هذه القوات قمع فلسطينيي الخط الأخضر وحماية قطعان المستوطنين في الضفة الغربية.
8- تؤكد هزالة ردود الفعل العربية والإسلامية والدولية على ما تقوم به حكومة نتنياهو في القدس والضفة أن الصراع بات محصورا بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولن يكون العالم الخارجي أكثر فلسطينية وحرصا على الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم.
وأخيرا، وإن كان سؤال أين الفلسطينيون؟ موجه للكل الفلسطيني إلى أن الرد مطلوب من منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب وللقيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس أبو مازن، فهل لدى هذه القيادة أية رؤية أو استراتيجية للتعامل مع ما يجري من تحولات في المجتمع الصهيوني وفي المحيط العربي والدولي؟ أم أنها ستستمر في نفس سياسة المراهنة على حل الدولتين وعلى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية؟