بقلم: حمادة جبر
افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ فترته الرئاسية الثالثة غير المسبوقة، بعد أن نجح الرئيس القوي والطموح بالغاء المادة الدستورية التي تحدد فترة الرئاسة الصينية لفترتين كحد أقصى، بإعلان بلاده نجاحها بالتوسط لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية المقطوعة منذ سبع سنوات. سبقت الجهود الدبلوماسية الصينية محاولات عراقية وعُمانية لتقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران خلال العامين الماضيين، لكن الحاجة لوجود قوة ضامنة للاتفاق جعل من بكين العنوان الأفضل للإعلان عنه، وكانت بكين قد استضافت وفدي الدولتين المفاوضين في الفترة ما بين 6-10 آذار/مارس الجاري. الولايات المتحدة الأمريكية التي قالت أنها كانت على علم بالجهود الصينية، رحبت بالاتفاق لكنها بدت متفاجئة من سرعة التوصل له، وشككت بالتزام إيران به.
الصين التي لا تفوت فرصة لتأكيد دورها العالمي، وأهليتها كقطب منافس للولايات المتحدة الأمريكية، تحاول تعظيم حضورها الدولي من خلال توظيف دبلوماسيتها القائمة على تبادل المنافع الاقتصادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بعكس الدبلوماسية الأمريكية التي تقوم على الهيمنة والإكراه. لقد التقطت الصين الإشارات الصادرة من السعودية التي تؤشر إلى توتر علاقتها مع إدارة بايدن، من خلال عدم تبني السعودية للموقف الأمريكي في الحرب الروسية-الأوكرانية، وردها على طلب إدارة بايدن منها بزيادة إنتاجها للنفط الذي أرهقت أسعاره المرتفعة جيوب الأمريكيين قبيل الانتخابات النصفية الخريف الماضي، بتخفيضها للإنتاج. تلك الإشارات شجعت الصين على تقديم نفسها كقوة عظمى تبحث عن توسيع نفوذها على أساس الشراكة مع دول المنطقة، ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي استضافت السعودية الرئيس الصيني لعقد ثلاث قمم عربية، خليجية، وسعودية-صينية فاتحةً الباب واسعاً أمام الاستثمارات الصينية في المنطقة من خلال مبادرتها الاستراتيجية “الحزام والطريق”.
كذلك تسعى الصين المتعطش اقتصادها للنفط بعد بداية التعافي من أزمة “كورونا”، إلى تعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة مع كل من السعودية التي تزود الصين بحوالي خُمس حاجتها للنفط. في المقايل، لتحقيق رؤيتها 2030، تحتاج السعودية إلى خبرات الشركات الصينية في مجالات عدة منها بناء البنية التحتية في مشاريع مثل المطارات والطرق والجسور. الصين هي الشريك التجاري الأول للسعودية لآخر 5 سنوات، وقد تضاعف التبادل التجاري بين البلدين ما يقارب ثلاثين مرة منذ عام 2000، فقد نما التبادل التجاري بينهما من حوالي 3 مليارات دولار عام 2000 ليصل إلى حوالي 90 مليار دولار عام 2022.
أما إيران المثقل والمكبل اقتصادها بالعقوبات الغربية وقليلة الأصدقاء، وقعّت مع الصين اتفاقية استراتيجية تمتد لربع قرن فتحت من خلالها للصين نفوذاَ عليها لا يشاركها به أحد. وتبدو إيران اليوم أكثر حاجة لشركائها القليلون مثل الصين وروسيا لتمكينها من مقاومة العقوبات الغربية التي أدت إلى تراجع تاريخي في قيمة عملتها خاصة مع الاحتجاجات الشعبية الواسعة والمستمرة منذ مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق أثناء اعتقالها في أيلول/سبتمبر الماضي. لذلك ليس أمام إيران إلّا إبداء بعض من المرونة لاتخاذ خطوات تجاه تجميد أنشطة أذرعها المضادة للمصالح السعودية في المنطقة.
في المقابل، الأولوية الملحة التي تريد السعودية تحقيقها من خلال هذا الاتفاق مع إيران، هي التخلص من عبء حربها في اليمن، وتوفير بعض من الاستقرار الذي تحتاجه للتفرغ لإنجاز مشاريع عملاقة في تحقيق رؤيتها 2030 وسعيها لتنويع قطاعات اقتصادها. لكن يبدو أن مشروع إيران النووي الذي تعارضه السعودية غير مدرج في بنود هذه الاتفاقية معتمدة ربما على إسرائيل للتعامل مع هذا الملف. إسرائيل بدت أنها الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق، فمنذ اللحظة الأولى لإعلانه، قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إن “الاتفاق السعودي الإيراني هو فشل تام وخطر لسياسة الحكومة الإسرائيلية الخارجية… إنه انهيار للجدار الدفاعي الإقليمي الذي بدأنا ببنائه ضد إيران”. فإسرائيل التي كانت تطمح لتطبيع علاقاتها مع السعودية لمواجهة “العدو” المشترك إيران، قد لا تجد الآن ما يمكن أن تقدمه للسعودية لتطبيع علاقاتها معها.
كثرة وتعقيدات واختلاف وجهات النظر في القضايا ذات الاهتمام المشترك بين السعودية وإيران، والتنافس الإقليمي بينهما، قد يجعل من إختيار الدبلوماسية الصينية للتوسط في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران كأول تدخل دبلوماسي لها في المنطقة، خياراً جريئاً مليئاً بالتحديات وأسباب الفشل أكثر من أسباب النجاح. لذلك، ستكون الدبلوماسية الصينية تحت الاختبار خلال وبعد الشهرين المقبلين، حيث حدد الاتفاق المُعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في مدة أقصاها شهران. على الصين أن لا تتفاجأ من فشل الاتفاق، فإيران قد تقوم بتجميد نشاط أذرعها “الأيدولوجية” في المنطقة إلى حين تبلور ظروف أفضل تجعلها غير معنية بمواصلة الالتزام بما اتفق أو سيتفق عليه مع السعودية برعاية صينية. كذلك، قد تتراجع السعودية عن موقفها البراغماتي تجاه مشروع إيران النووي خاصة إذا لم تتعاون إيران في أولوية السعودية الملحة بإنهاء الحرب في اليمن، أو إذا تغيرت الإدارة الأمريكية الحالية بإدارة أكثر تعاوناً معها وأكثر حزماً تجاه إيران، خاصة إذا تم إنتخاب رئيس جمهوري في الانتخابات الأمريكية العام المقبل.
في كل الأحوال، ومهما كان مصير الاتفاق السعودي-الإيراني، فإن المبادرة الصينية لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي أعلنت عنها الشهر الماضي، وبالرغم من ترجيح عدم التعامل معها أمريكياً وبالتالي أوروبياً وأوكرانياً، ومبادرتها للتوسط بين السعودية وإيران، مبادرات تعزز من حضور الصين الدولي، وتدل على تصميم وربما قدرة الصين على خلق نظام دولي جديد يتحدى الأحادية القطبية الأمريكية.