يشكل ما يسمى بالاستيطان الرعوي، تحدياً كبيراً للمزارعين والرعاة الفلسطينيين ولأراضيهم المستهدفة من قبل قطعان المستوطنين وتحت حماية جيش الاحتلال، وأضحى سلاحاً خطيراً للاستيلاء على المزيد من الأراضي وتهويدها وضمها للبؤر الاستيطانية المنتشرة في ربوع الأرض الفلسطينية.
وبهذا الصدد، يقول الناشط الفلسطيني منذر عميرة رئيس اللجنة التنسيقية للمقاومة الشعبية في الضفة الغربية والمسؤول في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إن هذا النوع من الاستيطان أصبح سلاحاً يستخدم بقوة وبكثافة في السنوات الأخيرة؛ من خلال قيام رعاة الماشية من المستوطنين.
ويضيف، في ظل ميزانيات كبيرة مصدرها من جمعيات استيطانية، وأحياناً من خلال الدعم الحكومي الإسرائيلي بإفلات أغنامهم ومواشيهم في المراعي الفلسطينية وهؤلاء الرعاة يرافقون هذه الماشية بعتاد عسكري، وبمجموعات من المستوطنين ليس فقط للرعي وحسب، بل أيضاً للاعتداء على المواطنين الفلسطينيين الذين يلاقونهم في الطريق، لدرجة أن هذا الاستيطان أصبح يشكّل خطراً ليس على الأرض وحسب، بل على حياة المواطنين الفلسطينيين.
وقال: “هؤلاء المستوطنين يعتبرون أن هذه الأرض أصبحت لهم، طالما تتمكن الماشية من الوصول إليها، وأينما وصلت تصبح حدوداً لهم ولمستوطناتهم؛ ففي المرحلة الأولى يعتبرون أنفسهم مالكي هذه المراعي، وفي مرحلة أخرى، يبدأون بالاستيلاء عليها ومنع المواطنين الفلسطينيين من دخولها.
المناطق الأكثر عرضة لاستيطان الرعوي
يوضح عميرة والذي كان قد أصيب برصاص الاحتلال الأسبوع الماضي، خلال مظاهرة في قرية رمون قرب رام الله خلال مسيرة مناهضة لهذا الاستيطان، حيث أطلق الجنود النار باتجاهه، ما أدى إلى إصابة ساقه اليسرى بجروح صعبة، نُقل على إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاج، إن أكثر المناطق عرضة لهذا الاستيطان هي المراعي الواسعة في شرق رام الله، ومنطقة الأغوار الشمالية ومسافر يطا قرب الخليل، وكذلك مناطق البادية في شرق بيت لحم وتحديداً في منطقة كيسان.
وفي أحيان كثيرة لا يكتفي المستوطنين برعي أغنامهم وحسب، بل يقيمون عرائش وخياماً أثناء عمليات الرعي، لتكون مقراً لهم للاستراحة وتناول الطعام ويحضرون مقاعد وفرشات للاستلقاء، لتصبح في كثير من الأحيان بداية لبؤر استيطانية، وهذا أدى بشكل واضح إلى تقليص مساعات المراعي الفلسطينية وتضييق الخناق على الرعاة الفلسطينيين.
أضف إلى ذلك، الارتفاع الكبير على سعر الأعلاف التي يضطر المزارعون لاستخدام كميات مضاعفة إثر تقلص مساحات الرعي وهذا من شأنه أن يضاعف من أسعار اللحوم والحليب ومشتقاته على المواطنين الفلسطينيين، وليس ذلك وحسب، فقد ترك الاستيطان الرعوي أثراً أخطر بكثير على المواطنين، الذين يضطر بعضهم لترك المراعي الفلسطينية، وهذا ما حصل في منطقة القبون شرق قرية المغير القريبة من رام الله، فخلال الأشهر الستة الأخيرة، اضطرت عشرين عائلة فلسطينية من مغادرة هذه المنطقة إلى قرية كفر مالك حيث يملكون أماكن بديلة للسكن.
تهجير صامت
شدد عميرة خلال حديثه مع “القدس” دوت كوم، أن البدو الفلسطينيين والذين نطلق عليهم كنشطاء في المقاومة الشعبية “قناديل الصحراء” يتعرضون لهذا النوع من التهجير وهو التهجير الصامت، حيث يتعرضون لاعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال في حالات لا تعد ولا تحصى، لتصل هذه الاعتداءات أيضاً استهداف أغنامهم، وقتل بعضها، ومن ثم الاستيلاء على كل رؤوس الجبال لإقامة البؤر الاستيطانية.
ويقول، إن إحدى البؤر الاستيطانية التسعة التي شرعتها حكومة إسرائيل، وبموافقة الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة، لم تكن قائمة أصلاً، وبعد قرار الشرعنة بدأوا بإقامة هذه البؤرة واعتبارها مستوطنة، وكانت حبراً على ورق، لتصبح فيما بعد مستوطنة وذلك في قرية رمون قرب رام الله.
أمثلة صارخة
من بين الأمثلة الصارخة على هذا الاستيطان الرعوي، مستوطن أصبح معروفاً باسم كوكي، والذي جاء قبل نحو عامين إلى أراضٍ رعوية في قرية بيت دجن قرب نابلس، برفقة عائلته وأبقاره، بحجة رعيها، وبعد نحو عام من هذا المجيء، احتل نحو 500 دونماً والتي تقع على تلة جبلية، وأشاد فوقها بؤرة استيطانية تتمتع بكل مقومات الحياة وما يلزمها من بنية تحتية وحماية عسكرية على مدار الساعة.
وجاء مستوطن آخر إلى منطقة تدعى الرفيد شمال سنجل قرب رام الله مع قطيع من أغنامه، وكان مسلحاً أيضا، وقد استخدم أغنامه كي يعمل على الاستيلاء على 1200 دونماً، وقد قام أيضاً بتخريب مزروعات المواطنين الفلسطينيين ورشها بالمبيدات السامة واقتلاع أكثر من 360 شحرة من الزيتون واللوزيات.
شكلٌ من أشكال الاستيطان الاستعماري
أشارت هدى خالد مباركة، التي بحثت هذه الظاهرة في إطار الدراسات العليا في الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، في ورقة بعنوان “الاستيطان الرعوي – شكل جديد من أشكال الاستيطان الاستعماري في منطقة الأغوار” إلى أن هذا النموذج يختلف عن النماذج الاستيطانية الأخرى، بأنه يوظف الثروة الحيوانية في التوسع على الأرض والسعي لإثبات ملكية المستوطنين عليها، بواسطة ثلاث طرق رئيسية هي القانونية عبر سن القوانين وتشريعها، والتاريخية من خلال العودة إلى الماضي، والثقافية عبر محاكاة الفلسطيني الأصلاني.
وتقول، إن المستوطنين يفرضون سيطرتهم على مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين المحيطة بتجمعاتهم السكانية، وفيها يقومون برعي قطعان ماشيتهم حيث يفرض المستوطنون طوقا حول التجمعات السكانية الفلسطينية عبر إنشاء كتل متراصة من المستوطنات والبؤر الاستيطانية ذات الطابع الرعوي، وذلك لقطع أواصر الوحدة الفلسطينية المادية على الحيز المكاني ومنع التواصل الفلسطيني ولبعثرة التجمعات الفلسطينية.
ويقوم المستوطنون برعي قطعانهم في جميع المناطق المحيطة ببؤرهم الجديدة، ويفرضون هيمنتهم بوسائل عدة وبحماية قوات الاحتلال لهم، وصولاً إلى مشاركتهم في الاعتداءات، ويقومون بإفراغ العنف المتأصل فيهم بواسطة الهجمات المتزايدة على الرعاة الفلسطينيين في مناطق الرعي، وعبر رشقهم بالحجارة والتخويف والتصادم المباشر وحمل العصي والأدوات الحادة وتخريب الممتلكات وسرقتها، وذلك لأجل الترهيب وبث الخوف في نفوس الرعاة الفلسطينيين وكل من يخرج معهم من أجل الرعي ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم.
ولفتت الدراسة إلى معاناة رعاة الأغنام الأصلانيّين في منطقة الأغوار الفلسطينية من جراء تصاعد وتيرة اعتداءات المستوطنين عليهم وحدتها، والتي تتخذ أشكالًا عديدة بدءا بالتهديد والملاحقة والاعتداء الجسدي أو الاحتجاز والاعتقال بذرائع مختلفة، مروراً بمداهمة قطعانهم بالتراكتورات بهدف تشتيتها وصولا إلى دهسها أو وضع مواد سامة لها في الأراضي الرعوية.