عندما تشرق الشمس على ما تبقى من قناطر الطواحين،أو مئذنة ونخل مسجد فاطمة خاتون،أو محطة سكة الحديد التركية القديمة،فإنها تفتح بشعاعها أبواب المدينة المجروحة المعذبة الشامخة على كل ما يعج من متناقضات،وتسوق بكل ما هو غير متوقع،أو تهيأ السماء لكل حدث غير مأمول…جنين،هذه شهرزاد الحكايات،بين كل عقد من عقد ضفائرها اللاتي تشدها كل صباح،حكاية وقصة من الوجع والبطولة،ومخيمها الذي توسد في خاصرتها اليسرى بعد النكبة ولا زال محلمة لم يتعبها طول الزمن،ولا ما تدفق في الارض العطشى من دم ومن ثمن…فهيَّ لا تعرف الانكسار،وتعاف الهزيمة باقتــــــــــــــــــــــــــــدار…
جنين هذه لها مع كل خميس رواية،وسرد حكاية،تبدأ مع صهيل الفرسان الذين لا يشبهون غيرهم،فهم عباد في النهار ،فرسان في الليل،لا تغريهم دنيا،ولا تستهويهم ملذات فانية،بل يصومون عنها زهدا،وينتظرون ركوب المواكب التي تصعد بهم الى السماء،هم فنانون يرسمون بالريشة والدم قسم الثبات،والذود على حمى المخيم حتى الممات،هم عشاق للغة العشق في شرايينهم تدفق لا يتوقف،وحبٌ لم يعرف تاريخ العواطف البشرية له مثيل،هم شعراء،لا ينحني شعر حناجرهم إلا امام زغرودة امهاتهم،ولا يروق لهم النوم والخلود إلا على الراحات عندما يعودون محمولين على الاكتاف،ومن حولهم تتزاحم الهتافات والدمـــــــــــــــــوع…
أبناؤك جنين… لهم نشيدهم… ولهم رايتهم… ولهم لحن أغنيتهم…يتدافعون،يتسابقون… يقول أحدهم : إرجع يا يوسف …
إحذر يا عز … أكملي يا ماجدة صلاتك في المحراب … لقد وصل صائب ومضى …ورتَّل بلسانه العذب طلع البدر علينا… لقد خرج عبد الله ليومه…محفوفا برضى ودعوات امه…ولم يكمل ابناء غنيم كعكتهم التي حملوها من هناك من بعيد من مخيم نهر البارد في لبنان إلى مخيم جنين…وما إتسع شباك العلاء لجسد صبح،فسقط بين الورد والتراب… اما الشبل الوسيم وسيم … فما قتلوه وما داسته حوافر خليهم …لكن شبه لهم…أما السعدي عمر…فرغم أن يد الدنيا شدته إليها إلا انه أصر ان يلحق بمن سبقوه وعّبّــــــــــــــــــــــــرْ…
بيوتك جنين بيوت تهاني وعزاء لا تقفل…تدخلها والدمعة تزاحم الاحزاق،تكاد تشطر العين،والغضب فيك يكاد يفجر صدرك ويمزق الاشداق،تتقدم،تصافح تحتضن،لكن ما يبَّرد قلبك ايمان ذويهم،صبر أهليهم،معنويات كالجبال،وسرد القصص عنهم وكأنه كلام كالخيال،وقد أضحت تلك البيوت لقاء مجتمعيا فريدا على موائد الشهداء،يتقاسم الجميع فيه المواساة،والتصبر،ويخرج من قلبه المجروح أجمل المعاني… لقد أصبحت هذه البيوت وهذه القاعات والساحات ملتقى فريدا فيه تلقى المواعظ والخطب،وتعقد الجلسات،تتبادل فيه الافكار والنصائح … هذا كله من بركة الشهداء… فقد جعلوا بفعل دمائهم كل المجتمع الذي أحبهم ويثمن تضحياتهم وكأنهم أسرة واحدة… لقد حفَّزوا فينا روح المبادرة والعطاء… روح البذل،الاحساس الواحد… لقد وحدوا طريقنا …رفعوا في أعيننا قيما غالية نفيسه…وأخرجوا من صدر من ألهتهم الدنيا أشياء جميلة كانت حبيسة… لقد أصبحت تلك البيوت مِحَجاً للجميع،وكأنه معبدٌ يصلي فيه المؤمن البريء،ويمر منه صاحب النوايا المخبــــــــــــــــأة.
إنهم الشهداء…وأي شهداء يا مدينة الربيع والبساتين ؟؟ يا فيحاء يمر من حلقها الشفاف ماء العين ويسمع فيها خرير أصفى ماء لذة للشاربين … يا بقاء العجوز الوحدة التي قهرت الطاعون وأعادت إنبات الحياة …يا حاضنة تراب فاطمة خاتون … ومداس حوافر حصان المجاهد أحمد أبو الرب …وفوهة بندقية المجاهد محمد أبو جعب…ومأوى القائد العراقي خطاب شيت… والوضوء الاخير لحسن ابو سرية… وسكين فتحي عيسى … وروح طوالبة والعامر وأبو جندل… وباعث الحالة المجدد جميل العمري… إنهم الشهداء يا مدينة معطرة بالمســـــــــــــــــــــك…
لقد تحرك لجرحك فتى من فيتان القدس فثأر… كان ليثاً خرج من عرينه فزأر…وقلب حزنك فرحاً… فأنت التي ينقلب لون سمائك الاسود نورا مضيئا لأجلك…وأنت التي تزورك أرواح الراحلين في حواصل الطيور البيضاء ليلا لترقص مع ابنائك الذين شفيت بعض صدوهـــــــــــــــــــــــــــــم…
يا جنين …أنت التي اصطفاك الرحمن لتكوني ذروة السنام…وأنت التي يحرسك أبناؤك حمى جدائلك…ولا تغلق فيك بيوت التهاني و العزاء… حتى تفترش عوائلك الفرح على شواطئ حيفا ويافا وعسقــــــــــــــــــــــــــلان.