بقلم:د. احمد يوسف
وأخيراً أطلقت إسرائيل سراح كريم يونس؛ عميد الأسرى الفلسطينيين، بعد 40 عاماً من الاعتقال قضاها في السجون الإسرائيلية، كان فيها شامخاً لم تلن له قناة صابراً محتسباً.. السؤال الذي قد يطرحه البعض: لماذا لم يكن المناضل كريم يونس ضمن محرري صفقة شاليط؟ ولماذا لم يكن هناك آخرون أيضاً من أسرى قيادات حركة حماس وفصائل العمل الوطني والإسلامي، مثل: حسن سلامة وإبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وأحمد سعدات ومروان البرغوثي…الخ من ذوي الأحكام العالية، وممن كانت تشملهم التوقعات باحتمال إطلاق سراحهم؟ والجواب ببساطة: إنَّ إسرائيل أصرَّت -ومنذ البداية- على رفض إطلاق سراح كلّ من كانت أيديهم ملطخة بالدم اليهودي!!
كان السيد أوليفر ماك تيرنن؛ الوسيط الأوروبي، هو أول من أدار عملية التواصل والتفاوض بين إسرائيل وحركة حماس. حيث كان يهود أولمرت -آنداك- رئيساً للحكومة، ويمثله عوفر ديكل؛ مسؤول ملف الأسرى والمفقودين الإسرائيليين. أما في جانب حركة حماس، فقد كان د. محمود الزهار هو رئيس طاقم التفاوض.
كانت بدايات العملية التفاوضية بالغة الصعوبة، وكادت تصل في أكثر من مرة إلى طريق مسدود، بسبب تمسك حركة حماس بمطالبها من ناحية، ورفض الجانب الإسرائيلي لبعضها من ناحية أخرى.
كان السيد أوليفر وسيطاً مخضرماً يتمتع بالكثير من الخبرة والحنكة والذكاء، مع امتلاكه لمهارات التفاوض بِحرفية ومعرفة أكاديمية عالية، اكتسبها خلال دراسته العليا بجامعة هارفرد الأمريكية، الأشهر في هذا المجال من التخصصات على مستوى العالم.
كان السيد أوليفر بمهاراته تلك، وثقة الجميع به، هو “حلَّال العُقد” ومُذلل الصعاب، واستطاع خلال ثلاث سنوات أن يصل بالوساطة إلى مراحل متقدمة، وخاصة عندما جاءت حكومة ناتنياهو وممثلها التفاوضي الجديد ديفيد ميدان، حيث تمكن أوليفر من اقناع الطرف الإسرائيلي بالتخلي جزئياً عن خطوطه الحمراء وقبول الإفراج عن مجموعة من ذوي الأحكام العالية، ممن كانت على أيديهم دماءً أو آثاراً من دماءٍ يهودية.
لقد تمسَّكت حركة حماس والدكتور الزهار لعدة شهور من المفاوضات على قوائمها من الأسرى المطلوب إطلاق سراحهم مقابل شاليط، والتي كانت تتصدرها تلك القامات النضالية من الإخوة ذوي الأحكام العالية، ولكنَّ حكومتي أولمرت ونتانياهو من بعدها كانتا ترفضان وتتذرعان بعدم القدرة على تحقيق ذلك، لاعتبارات تتعلق بشعارات لطالما سمعناها منهما، مثل عدم التفاوض مع (الإرهابيين) أو إطلاق سراحهم مهما كانت الدواعي والأسباب.
كنت أتابع جولات السيد أوليفر وتحركاته المكوكية بين الطرفين، وكنت أقرأ في عينيه وهو يفاوض الإخوة في حركة حماس صعوبة المهمة وتعقيداتها، ولكنه لم يفقد الأمل وكان دائم التفاؤل بأن الصفقة سوف تتم، ولكنَّ المهمة تحتاج إلى مزيد من الوقت والصبر والحكمة وإلى أطراف دولية أو عربية أخرى للتدخل، وهذا ما حصل فعلاَ، إذ دخل على خط الوساطة مفاوض آخر ألماني الجنسية، أسهم من جهته في تحريك ملفات أخرى، إلى أن جاء الوسيط المصري ممثلاً بجهاز المخابرات العامة وأكمل المسيرة، حيث أصبحت قيادة القسَّام ممثلة بالأخ أحمد الجعبري (رحمه الله) وإخوانٍ له في داخل السجون هم من يتولون مفاوضات الساعة الأخيرة، إلى أن تكللت الجهود بالنجاح، فيما سُمِّي بصفقة “وفاء الأحرار” في أكتوبر 2011.
ونظراً لأن السيد أوليفر لم يكن يسعى خلف الشهرة الإعلامية، ظلت جهوده محفوظة طي الكتمان، ولم يتحدث عن دوره الذي كان مرتكزاً أساسياً لإنجاز الصفقة، ولم يُشر إلى مجريات وتفاصيل ما كان يجري خلف الكواليس خلال تلك السنوات، ولم يكترث حتى بالرد على ما ادعاه أحد الإعلاميين الإسرائيليين، ونشره في كتاب صدر له حول وقوفه خلف الصفقة.
وإنصافاً مني للسيد أوليفر، وتقديراً لجهوده الإنسانية التي تابعت بعضاً منها في ملف الأسرى، وأنشطة تفاوضية وإنسانية أخرى، فقد نشرت كتاباً من جزأين باسم (أوليفر ماك تيرنن: طيف السماء)، حيث تناولت فيه سيرته الذاتية وشخصيته كإنسان ومفاوض ورجل سلام، كما أنَّ هناك فصلاً كاملاً في الجزء الأول من الكتاب، تضمن جهوده وتحركاته التي قام بها فيما يخص صفقة شاليط- وفاء الأحرار.
فمن هو السيد أوليفر ماك تيرنن؟
في الحقيقة، السيد أوليفر هو شخصية عالمية من أصول إيرلندية ويحمل جوازَ سفرٍ بريطاني، درسَ الفلسفة وعلم اللاهوت، وعملَ كاهناً بأحد الكنائس في العاصمة اللندنية لأكثر من ثلاثة عقود، ثم قرَّر ترك حياة الكهنوت، حيث وجد أن سترته الدينية لا تتسع لكلِّ أحلامه ومشاعره الإنسانية ومهماته الرسالية، فذهب لاستكمال دراساته العليا في علم التفاوض وحلِّ النزاعات بجامعة هارفرد الأمريكية، وأصبح ناشطاً ومبعوثاً أممياً خاصاً في هذا المجال.
السيد أوليفر له الكثير من جهود الوساطة وحلِّ النزاعات، حيث كان له سهمُ خيرٍ في رأب الصدع بين الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا الاتحادية والفاتيكان مطلع تسعينيات القرن الماضي.. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصدر كتابه الشهير والموسوم (العنف باسم الإله)، فنَّد فيه دعاوى اتهام الإسلام بالتطرف والإرهاب، وأن الأديان بما في ذلك اليهودية والمسيحية فيها بما يمكن الإشارة إليه من اتهامات توجه للإسلام والمسلمين.
لقد عمل السيد أوليفر كذلك على تسهيل لقاءات جمعت بين قيادات إسلامية حركيِّة من الدول العربية وأخرى من الدول الغربية في جلسات وندوات حوارية باسم (عملية نيون) في العديد من الحواضر الغربية والإسلامية، وأخرى على المستوى الرسمي تحت عنوان (منتدى هلسنكي للسياسات)، والذي تُجري فيه حوارات على مستوى وزراء الخارجية من دول عربية وإسلامية وأخرى أوروبية.
كما أسهم السيد أوليفر في الجمع بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس ومصر، وقد أثمرت جهوده ومساعيه عن تفاهمات وتوافقات مهمة. وفي سياق المصالحة الفلسطينية، كانت له الكثير من التحركات بين فصائل العمل الوطني والإسلامي.
باختصار.. السيد أوليفر ماك تيرنن هو شخص مفاوض ورجل سلام، وهو إنسان صاحب ضمير وأخلاق نبيلة، ويتحرك بدوافع إنسانية راقية وبروح عالية من المسؤولية، وتشعر وأنت تلتقيه وتحاوره وكأنه في مهمة رسالية، ينقلها على جناح السرعة كطيفٍ من السماء.
بيت القصيد.. هناك في الغرب شخصيات لا يمكن تجاهلها، حيث تركت في مسيرتها ومسارها بصمةً وأثراً على المستويين الإنساني والأخلاقي، وقد عبَّرت من خلال مبادئها ومنظومتها القيمية عن صحوة ضمير عالية تجاه قضايا ومظلوميَّات الشعوب الأخرى، وكانت مواقفها ذات طابع رسالي للعالمين..
السيد أوليفر ماك تيرنن اليوم هو واحد من بين هؤلاء وأولئك الذين تعاملنا معهم من أصحاب الضمائر الحيَّة والمواقف الإنسانية الرائعة، الذين نقول لهم: العمرُ ماضٍ.. إنّما يبقى صنيعك والأثر.