بقلم: د. إمطانس شحادة
نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أدخلت ما تبقى من يسار صهيوني وتيارات ليبرالية في مأزق حقيقي، بحيث وضحت النتائج سيطرة اليمين الفاشي الديني على المشهد السياسي في إسرائيل وعلى مفاصل اتخاذ القرار، بعد أن هيمنوا منذ أكثر من عقدين على الثقافة السياسية في إسرائيل. فهل سيقوم اليسار الصهيوني، أو عمليا الـ”لا يمين”، بعملية مراجعة لسياساته ومواقفه منذ الانتفاضة الثانية واستخلاص العبر، أم أنه سيستمر في نفس النهج والمسار.
هذا اليسار صمت وانصاع إلى الأجواء العامة في إسرائيل، ولم يعترض على سبيل المثال لا الحصر، على جوهر قانون القومية، وخضع إلى الإجماع الذي رفض إنهاء الاحتلال ودعم توسيع الاستيطان ومنع الحقوق الطبيعية الشرعية للشعب الفلسطيني، وتبنى مقولة رئيس الوزراء الأسبق، إيهود براك، بأنه لا يوجد شريك للسلام في الطرف الفلسطيني.
ما تبقى من يسار صهيوني يدفع، الآن، ثمن موافقه وتخاذله على مدار عقود، ودعمه لمعادلة النظام “اليهودي والديمقراطي”، إذ كان الحفاظ على طابع إسرائيل كدولة “يهودية وديمقراطية” كافيا لإسكات أي انتقاد لسياسات التمييز والعنصرية تجاه المواطنين العرب، وشرعنة قوانين قيدت الهامش الديمقراطي الضيق أصلا في إسرائيل، ووفرت حماية لكافة الممارسات الاستعمارية والسياسات الأمنية في الضفة الغربية وغزة. فقد تحولت مناهضة الاحتلال منذ سنوات إلى حركات هامشية في المجتمع الإسرائيلي، لا تؤثر على المشهد السياسي ولا الاجتماعي. وبات المستوطنون طلائعيون يشكلوا وفق المفاهيم الإسرائيلية خط الدافع الأول عن دولة إسرائيل، وكل من ينتقد أو يعارض ذلك يعاقب سياسا أو اجتماعا أو قانونيا، وكل من لا يخضع لهذه المفاهيم والمصطلحات يجد نفسه خارج شرعية القبيلة الصهيونية.
اليسار الصهيوني الذي قبل وما زال بمعادلات التفوق اليهودي وحقه الطبيعي في هذه البلاد على حساب أهل البلد الأصليين، وتعامل مع كل أشكال النضال الفلسطيني على أنها إرهاب، وقبل بادعاء أن كل محاولة لتغيير جوهر النظام والمطالبة بالديمقراطية الجوهرية تهدف إلى تقويض الحق الطبيعي للمجتمع اليهودي على هذه البلاد، وجرّم مطلب دولة المواطنين، يصحو الآن على واقع جديد تتحول فيه إسرائيل إلى دولة غير ديمقراطية ليس تجاه المواطنين العرب فحسب، إنما أيضا تجاه سكانها اليهود الذين لا ينتمون لتيارات اليمين، وتجاه أي حركات إسرائيلية تنادي بإنهاء الاحتلال، وأمام حكومة ستعمل على تقييد الحقوق الليبرالية والفردية لكافة المواطنين.
هل استخلص اليسار الصهيوني العبر؟
اليسار الصهيوني والتيارات الليبرالية والعلمانية، على ما يبدو، لم يستبطنوا أسباب الفشل لغاية الآن، ونجد أن غالبية ردود الفعل وقلقهم الأساسي ينبع من إسقاطات التحالف الجديد على قضايا الحقوق والحريات الفردية، نحو تأثير الدين على الحياة العامة، وحقوق المثليين والمثليات، وتوكيل شخصية فاشية مثل آفي معوز بملف البرامج اللامنهجية في جهاز التعليم، أو تأثير التحالف الجديد على العلاقات مع الولايات المتحدة ودول أوروبية حليفة، أو على ملفات نتنياهو القضائية، ومكانة جهاز القضاء ودوره أمام السلطة التشريعية والتنفيذية. ولا نسمع أي قلق جدي من إسقاطات سياسات التحالف الحكومي المتبلور تجاه الاحتلال والاستيطان، أو تجاه المجتمع الفلسطيني في الداخل، أو تجاه المعاني الحقيقية للديمقراطية الجوهرية والمساواة، وبذلك يستمر بنفس التصرفات والمواقف التي تبناها منذ عقود.
نتائج الانتخابات الأخيرة توضح بأنه لا يمكن أن تحافظ على إسرائيل كدولة “يهودية وديمقراطية” إلا بأدوات غير ديمقراطية، وبقوانين ظالمة وعنصرية، وبقمع أي نضال يطالب بالديمقراطية الجوهرية والمساواة التامة، وبنظام فاشي. على اليسار الصهيوني أن يعي أن من يريد أن يناضل ضد نظام فاشي متطرف غير ديمقراطي، لا يمكن أن يقفز عن التناقضات الداخلية في معادلة الـ”يهودية وديمقراطية” والاكتفاء بالحريات الفردية الليبرالية للسكان اليهود فقط. وأن المحاولات للحفاظ على معادلة “يهودية وديمقراطية”، وخضوع اليسار الصهيوني لهذه المعادلات، جاء بنظام غير ديمقراطية لكل المواطنين.
هل ستكون نتائج الانتخابات عبرة لبناء يسار إسرائيلي مختلف عما كان، لا يرضخ لقمع الإجماع الصهيوني ويتحدى معادلة الدولة “اليهودية والديمقراطية”، ويعمل لطرح بديل ديمقراطي حقيقي لكافة المواطنين؟
تصرفات ما تبقى من أحزاب يسار صهيوني وتيارات ليبرالية علمانية منذ الانتخابات، لغاية الآن، لا تشير إلى ذلك.