بقلم: مروان إميل طوباسي
عندما قرأت البيان الصادر قبل ايام عن الهيئة العليا للعمل الوطني والشعبي بالقدس عادت بي الذاكرة إلى ما قبل “٣٠ عاما”، عندما استنهضنا أنفسنا عند العلم عن مشاريع وصفقات اراضي وعقارات استهدفت اوقافنا الوطنية انذاك . فتداعينا إلى اجتماعات عقدت بالقدس بمشاركة القائد الراحل فيصل الحسيني والقيادات الوطنية الأخرى لبحث مخاطر تلك الصفقات ومناهضتها والدفاع عن أوقاف الاجداد، لما تشكله هذه الصفقات من مخاطر على عروبة القدس درة التاج ، فعقدنا المؤتمر العربي الأرثوذكسي لرفع الصوت عاليا حفاظا على اوقافنا التي تُعتبر ارثا وطنيا خالصاً، ولتثبيت الدور الوطني المطلوب لكنائسنا باعتبارنا جزء أصيلا من شعبنا الفلسطيني الواحد وباعتبار أن الكنائس المحلية يجب ان تُمثل مصالح أبناء الوطن، ولهذا حديث اَخر يطول.
كان هدف دولة الاستعمار الإسرائيلي حتى منذ ما قبل ذلك ومن خلال صندوق إقامة إسرائيل “الكيرن كايميت” الأستحواذ على ما تستطيع من اراضي بشتى الوسائل لتمكين نشوء “دولتهم”.
منذ ذلك التاريخ وما قبل، هدفت تلك الصفقات التي ذاع صيتها انذاك من أجل إقامة الحزام الأستيطاني حول القدس من جهة وخلق بؤر استيطانية داخل اسوار البلدة القديمة من جهة اخرى بهدف السعي الواضح لتهويد المدينة المقدسة وأسرلتها وفق مخطط مشروعهم الاستعماري القديم الجديد، وتحديدا في اجراءات استهداف حارة النصارى والحي الأرمني بهدف ربطهما بحارة اليهود ضمن سياسات تغير الواقع الديمغرافي والجغرافي فيهما لمصلحة خطة التهويد والأسرلة.
وقبل أيام أصدرت بلدية الأحتلال بالقدس اعلاناً بخصوص احتفالات أعياد الميلاد المجيدة التي ستقيمها بشكل يومي من ١٥ حتى ٢٥ الشهر الجاري والأعلان عن إقامة سوق الميلاد في شارع الحشّار وباب الجديد يترافق مع إقامة احتفالات الميلاد بتلك المنطقة بالتعاون مع معهد المانيفيكات وفق ما جاء باعلانهم المذكور.
وهو أمر شبيه بما أقامته بلدية الاحتلال ومجموعات المستوطنين في الأعياد اليهودية في أزقة باب الخليل وباب الجديد وحارة النصارى، وكأن هذه البلدية مسؤولة عن احتفالاتنا، الأمر الذي يندرج في إطار تزويرهم لتاريخ المدينة وسرقة تراثنا.
ان ما آثار الغضب في نفسي هو تعاون هذا المعهد لتدريس الموسيقى الذي اشار له اعلان بلديتهم وبالتعاون مع حفنة قليلة جشعة من تجار القدس من أجل إقامة هذه الاحتفالات بالتعاون مع البلدية، رغم الاحتجاج والاعتراض الواسع من إبناء شعبنا والعائلات المقدسية حول ما تخطط له البلدية، الأمر الذي يستوجب انسحاب هذا المعهد من ذلك الاعتداء على تقاليدنا الدينية التي تحمل الطابع الوطني ، كما وانسحاب تلك القلة القليلة المشاركة انطلاقا من الواجب والضمير الوطني.
سبق ذلك أيضا، أن اصدرت إدارة مستشفى مار يوسف بالقدس تعميماً تدعو فيه موظفي المستشفى وعائلاتهم لحضور حفل في فندق “الطنطور هيلز” يقام بعد أسبوعين، وذكرت الإدارة في ذلك التعميم الصادر في ١٢/١ أن تكاليف الحفل هي على نفقات المستشفى وبمساهمة جزئية من وزارة الصحة الإسرائيلية وفق قولهم وحول ذلك هنالك استياء وغضب اَخر.
لقد سبق ذلك إقامة البؤرة الاستيطانية في قلب البلدة القديمة بعد سيطرة المستوطنين على دير مار يوحنا منذ ثلاثة عقود الذين ما زالوا به ، ولاحقا على استيلاء المستوطنين على فندقي “بترا” و”امبريال” في باب الخليل في صفقات ما زالت تثير جدلا واسعا منذ عقدين من الزمن حتى الآن أمام المحاكم التي يشكل جهازها القضائي جزء من منظومة الأحتلال ، كما ظهرت قضايا الاستحواذ المشبوهة من سلطات الاحتلال على اراضي تابعة لبطريركية الأرمن بالقدس قبل عامين.
وفي الاَونة الاخيرة اثيرت العديد من قضايا تسريب البيوت والعقارات في أنحاء مختلفة من المدينة المقدسة وفي سلوان ووادي الجوز لجهات استيطانية أهمها “عطيريت كوهانيم”، وبرزت اسماء عديدة لمحامين واثرياء يهود تعاونوا مع من سقطت ضمائرهم على تنفيذ تلك الصفقات التي تهدف إلى تفريغ القدس من اصحابها الأصليين واضفاء الطابع اليهودي الاستعماري عليها.
كل ذلك حدث وما زال يحدث وفق ما نسمع ونقرأ يوميا في وسائل الإعلام عنه ومن أهلنا بالمدينة المقدسة وعلى مَسمع من الجميع ، وهو ما يترافق مع مخطط الحركة الصهيونية الدينية بالسيطرة على ما يسموه الحوض المقدس بالمدينة المحتلة بالترافق مع مسيرات وهجمات المستوطنين على الحرم القُدسي الشريف ليس لتقسيمه زمانيا ومكانيا بل ولاقامة الهيكل مكانه وفق رؤيتهم المزعومة.
لقد أصبح الوجود الفلسطيني المسيحي والإسلامي في القدس درة التاج في خطر يتهدده مخطط التهويد الشامل من خلال اجراءات استعمارية عنصرية، منها انفلات المستوطنين وطلاب مدارسهم الدينية واعتداءاتهم مع ارهاب شرطة الاحتلال وسحب الهويات ومنع لم الشمل وفرض الضرائب والمنهاج الإسرائيلي “البغروت” في مدارسنا ومنع البناء وغيرها من الإجراءات. وأصبحت بعض الكنائس عبارة عن مزارات من حجر دون بشر تتعرض أيضا للأعتداء عليها كما المساجد وسلب مسؤوليات القائمين عليها من جانب سلطات الاحتلال في محاولات محمومة لاخضاعها والوصول الى حالة انعدام الوجود العربي المسيحي في القدس، في محاولة لتنفيذ رؤيتهم التلمودية التي يتفق معها الأنجيلين الجُدد بالولايات المتحدة الاميركية والمسيحيين الصهيونيين في ما يعتقدوه ويسموه بحرب “هارماجادون” وانتظار المسيح الاَخر الذي بَشرنا به بايدن عند قدومه لتمكين تحالفه الاستراتيجي مع دولة الاستعمار لأستدامة احتلالها الأستيطاني لوطننا وقرار سابقه ترامب باعتبارها عاصمة دولة الاستعمار.
مسيرات المستوطنين واعتداءاتهم أصبحت شبه يومية تترافق مع القتل والتنكيل لشباب القدس على مشارف باب العامود وغيرها من أبواب المدينة ومحيطها كما في كل فلسطين التي أصبح الأعدام فيها بحق ابنائنا يوميا.
ان القدس محاصرة بالجدار العنصري وتتعرض لابشع الانتهاكات اليومية بحق تاريخنا ونصوص القرارات الدولية، ما يشكل جريمة مستمرة بحقها أمام مرأى من المجتمع الدولي الصامت ونفاق الغرب.
أمام ذلك فقد تابعت ما صدر من بيان عن الهيئة العليا للعمل الوطني والشعبي بالقدس قبل أيام بخصوص ما ذكرته بدايةً من ادانة محاولة تعاون البعض القليل من المقدسيين الذين لا أعرف أسمائهم أو عددهم في تنفيذ الاحتفالات الميلادية مع بلدية الأحتلال.
لقد قرع بيان الهيئة العليا ناقوس الخطر المحدق ورفع مرة أخرى الصوت عاليا في مواجهة ما يجري من تهويد بتوسيع ممنهج للأستيطان وبناء الوحدات الجديدة بقرارات من حكومة الاحتلال خاصة مع توجه اليمين الفاشي الديني بحكومة الاحتلال الجديدة “لانهاء الظلم التاريخي بحق المستوطنين كما قال أمس نتنياهو”، ليزيد بذلك عدد المستوطنين بالقدس على الستين بالمئة كما هي اليوم واستكمال سياسات التهويد وتفريغ الشيخ جراح وباقي المناطق بل وكل القدس من أهلها الأصليين اصحاب الأرض وربط ميدان عمر بن الخطاب بما يسمى بالقدس الغربية وفق رؤيتهم الاستعمارية حول مكانة مدينتنا المقدسة عاصمة دولتنا العتيدة.
لقد كان ذلك ما تنبه له الخالد “أبوعمار” في كامب ديفيد رافضا التنازل عن أي حي في المدينة فوق الأرض وتحت الأرض وفق مخططاتهم، حتى أنه أسمى نفسه بياسر عرفتيان تأكيدا على الهوية الفلسطينية لأرمن القدس وفلسطين.
وهنا لا يمكنني التغاضي عن الفراغ الكبير الذي تركه رحيل الأخ والمناضل فيصل الحسيني وإغلاق الاحتلال لبيت الشرق الذي شكل معقلاً وطنيا هاما بالقدس كذراع لمنظمة التحرير ما قبل إقامة السلطة الوطنية، وما تبعه من إغلاق للمؤسسات الفلسطينية فيها أو التضييق على ما تبقى منها،الأمر الذي ترك فراغا قيادياً، تمت محاولة الاستعاضة عنه باستحداث وزارة شوؤن القدس بحكومتنا.
وفي هذا السياق،كَلف الرئيس “أبو مازن” فادي الهدمي وزير شوؤن القدس بالسفر فورا إلى القاهرة للقاء الأمين العام لجامعة الدول العربية بهدف التحضير لعقد مؤتمر القدس سنداً لقرارات القمة العربية الأخيرة في حماية القدس ودعم صمود أهلها وتمكينهم من خلال القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتعددة، فالقدس مسوؤلية سياسية واخلاقية عربية ومسيحية واسلامية لما تشكله من معاني تاريخية وسياسية ولما تحمله من إرث وطني وديني أيضا، إنها مسوؤلية الجميع ومسوؤليتنا نحن قبل الجميع.
ختاما أقتبس مما قاله الصديق الشاعر تميم البرغوثي:
وفي القدس السماءُ تَفَرَّقَتْ في الناسِ تحمينا ونحميها ونحملُها على أكتافِنا حَمْلاً إذا جَارَت على أقمارِها الأزمانْ ، في القدس أعمدةُ الرُّخامِ الداكناتُ كأنَّ تعريقَ الرُّخامِ دخانْ ونوافذٌ تعلو المساجدَ والكنائس ، أَمْسَكَتْ بيدِ الصُّباحِ تُرِيهِ كيفَ النقشُ بالألوانِ ….
في القدسِ مَن في القدسِ لكنْ لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت…