بقلم: نسب أديب حسين
عايشتُ أوجاع اختطاف جثامين الشهداء واحتجازها في الثلاجات، منذ برزت هذه القضية وتحوّلت إلى نهج يمارسه الاحتلال ضد شعبنا، في هبة القدس عام 2015. كان ذلك باحتجاز جثمان الشهيد الصديق المقدسي بهاء عليان الذي ارتقى في 13/10/2015، ومتابعة ظروف والده الصديق الكاتب محمد عليان حتى الدفن في 1/9/2016. هذا التعامل المتعنت من الاحتلال لمعاقبة عائلات الشهداء أصعب من هدم المنازل أو تشريدهم.
كان وجع تلك الفترة وجعًا مختلفًا بالنسبة لي لا يشبه غيره، وأنت تشعر بهوّة في قلبك، لا تعرف كيف تتعامل معها، وتنتظر انتظارًا لا تدري متى سينتهي، وكلّما سمعت عن إجراء وتقدم خطوة تسأل: هل عاد؟ وكأنّه حيّ وقادرٌ أن يعود وحده، وبردّ النفي يبقى الجرح مفتوحًا يتسع، ولك فقيد معلّق بين الحياة والموت، في مساحة لم يدركها العقل البشري بعد. كانت لي أكثر من جلسة مع آباء شهداء ينتظرون الإفراج عن جثامين أبنائهم لدفنهم، كنتُ وأنا أسمع الحوار بينهم حول تقدم الإجراءات والمطالبات، أشعر أنّ رأسي ثقيل سينفجر، وأتساءل أأنا في حلم أم علم؟ فهل يُعقل أن يُحرم المرء من أكثر حقّ إنساني، ويتحوّل دفن الميت إلى موضوع مساومة؟! إلى أيّ هاوية أخلاقية وصل الاحتلال في تعامله معنا؟ لكنّه الاحتلال بوجهه البشع القميء الذي لا نتوقع منه إنسانية معنا؟
الصدمة الكبرى بأن نتحوّل نحن أنفسنا للتعامل بنهج محتلنا اللا أخلاقي، أمّا الطامة الأكبر عند اكتشاف أنّ من تمّ التعامل معه بهذا الشكل ليس جزءًا من عدوّنا، بل جزء من أبناء شعبنا. وبدل الاعتذار عن هذه الخطوة التي تمسّ بعدالة قضيتنا الفلسطينية، ولا تمثّل الأخلاق العربية الإسلامية بإغاثة الملهوف الذي يستجير بها كائنًا من كان، جاء الردّ بما لا يشبهنا سواءً من الخاطفين أو من الردّ والنشر الإعلامي.
فازداد الخطأ أولا بعدم إعادة الجثمان مباشرة، وثانيًا بالاختلاف على التعريف والسقوط في لجّة في التعميمات، والأفكار المسبقة، وإسقاط الحق عن أيّ فرد في هذه الأرض أن يُعرّف نفسه كما يحقّ له، وثالثًا الوقوع في نار الفتنة.
لا يغيب عن أيّ مطلّع في هذا الوطن إشكاليات الهوية في المناطق المحتلة عام 1948، وسياسات الاحتلال الممنهجة تجاه جميع فئات مجتمعنا الفلسطيني لتفتيته وأسرلة هويته. بالتالي ما دام الشاب المخطوف ليس جنديًا في جيش الاحتلال، بل طالب في الصف الثاني عشر (التوجيهي) ولم يبدر عنه شخصيًا أيّ فعل يمثّل الاحتلال، وقصد جنين (ويستطيع المرء الحصول على رخصة قيادة مع بلوغه السابعة عشرة بشكل قانوني) كما يقصدها هي وأنحاء مدن الضفة، مئات الآلاف من فلسطينيي الداخل، الذي تعريفهم في الخطاب الفلسطيني “فلسطينيون”، وحضورهم إلى هذه المدن هو جزءٌ طبيعي من المشهد.
بذلك كان حريًا بوسائل إعلامنا الفلسطينيّة أن تنشر بأنّ الجهة الخاطفة من مخيم جنين اعتقدت أنّه جندي إسرائيلي، وتبيّن أنّه شاب من الأقليّة الفلسطينية في الداخل من الطائفة الدرزية من قرية دالية الكرمل العربية. لكن المزعج والموجع في الخطاب الإعلامي أنّ اللّغة المستخدمة تجاه أبناء الطائفة المعروفية، هي اللغة ذاتها التي يريدها الاحتلال لهم، والرؤية التي حيكت لينظر بها الجميع تجاههم، وكذلك أن ينظروها هم أنفسهم نحو ذواتهم. فلم يتغير الخطاب عند اكتشاف براءة الفقيد “تيران فِرّو” من الانتماء إلى جيش الاحتلال، بل وبقي تعريفه “الإسرائيلي الدرزي تيران فرِّو”. هذا التعريف وهذه النظرة المعممّة رغم كلّ ما يسعى الخط الوطني الفلسطيني العربي الدرزي من كتابات ومحاضرات ولقاءات، ليُعرّف بسياسة الاحتلال لفصل أبناء هذه الطائفة عن امتدادهم العروبي وإيقاعهم في بوتقة الصهيونية، تطبيقًا لسياسات استعمارية مورست ضد شعوب أصلانية محتلة أخرى لتفتيتها وكسر توحدّها، وتُمارس بقوّة ضد هذه المجموعة من شعبنا. بالتالي فإن الدرزي الفلسطيني من مناطق 1948 صار متّهمٌ بالإسرائيلية بصورة بديهية في وعيّ فلسطينيي الضفة وغزّة، حتّى يثبت براءته منها. هذا ما أراده الاحتلال لهم مذ بدأ بممارساته لدقّ الأسافين وإشعال الفتن منذ عام 1930م ثمّ بالخطوات التالية عام 1948، 1956.. وما تلاها. فإن كان أبناء الشعب الواحد لن يتبينوا أمر بعضهم قبل الحكم، فمن ذا الذي سيفعل؟
سيقول قائل إنّ ممارسات الجنود من أبناء الطائفة الدرزية على الحواجز ووقت الانتفاضة الأولى والثانية، وخلال اقتحامات جنين، ظالمة جدا، وأحد وجوه الاحتلال القاسية. نعم أعلم ومطّلعة على ذلك وسمعت عن الكثير من الممارسات من جنين شمالا وحتّى الخليل جنوبًا، بل وعشت بعضها في القدس. لكن إلى متى سيبقى التعميم؟ إلى متى سيبقى الخطاب الفلسطيني ينظر بالتعميم والبديهيّة تجاه أبناء الطائفة المعروفية على أنّهم جزءٌ من الاحتلال الإسرائيلي؟ بدل أن يتمّ الفصل ووضع كلّ مجموعة في مقامها؟ ألا نخدم بذلك منهجيات الاحتلال؟
لا جدل في أنّ من اتجه لخدمة الاحتلال من أبناء الطائفة المعروفية أو من الطوائف الأخرى وهم كُثُرُ، فهو جزء منه، ويحقّ للحركة الوطنية التعامل معه كمحتل، لكن ألا تستحق المجموعة الفلسطينية من أبناء الطائفة المعروفية أن توضع الأمور في نصابها، وألا تُجرح بالتعميم؟ ليجد أتباع الخط الوطني الفلسطيني كلّ طائفتهم وأبنائها يُوصفون بأبشع الأوصاف والخيانة، على أثر أخبار تُنشر بلغة تعميمية تزيد في التحريض والفتنة أحيانًا.
زرتُ في ربيع هذا العام جنين مرّتين، سررتُ كثيرًا بزيارتي، لما لقيت من طيب المعاملة وكرم الضيافة، وأتحيّن الفرصة للعودة. وفي كلّ مرّة رأيتُ الكثير من أبناء الطائفة المعروفية يتجوّلون في شوارعها هي ونابلس، كما نجد العمال من قضاء جنين ونابلس في أنحاء قرى الجليل كجزء اعتيادي من المشهد. مذ وُلدتُ وأنا أشهد أقاربي يتّجهون بشكل دائم لقضاء يوم العطلة في جنين ونابلس، الامتداد الطبيعي نحو الجنوب لقرى شمال فلسطين. غير الطبيعي كان الحرمان لعدّة سنوات من هذه الزيارة في فترة الاجتياح والانتفاضة الثانية. أمّا اليوم لا بدّ أن يلوح في ذهن كلّ زائر السؤال “تُرى لو تعرضت لحادث وأصابني ما أصاب تيران فرّو، فهل سيكون مصيري كمصيره؟” فهل تقبل مقاومتنا الفلسطينية في مخيم جنين سؤالا كهذا ونظرة كهذه إليها؟
وهنا تجدر مراجعة الذات عند المجموعة المسؤولة عن هذه الحادثة، لئلا نحيد عن الدرب الأخلاقي لقضيتنا الفلسطينية ولعدالتها.
أمّا ما بدر من تصرفات همجيّة مخزيّة من مجموعات من الدروز، سواء باختطاف عمال فلسطينيين، أو بالتهديد بالهجوم على جنين عند حاجز الجلمة، فإنّ هؤلاء يحملون وزر فعلهم وهم جزء من منظومة الاحتلال، لا خطاب لنا كحركة وطنيّة فلسطينيّة معهم، هم لا يمثّلون الدين، ولا يمثّلون بتصرفاتهم اللا أخلاقية عائلة الفقيد أو الطائفة المعروفية عمومًا، فلا تزر وازرة وزر أخرى. وحالهم كحال أولئك الذين نزلت بهم الآية 46 من سورة الإسراء في قرآننا الكريم “وجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذَنِهِمْ وَقْرًا” فأغشي على قلوبهم وعقولهم ليتّبعوا عدوهم على الضراء والسراء. في الوقت عينه وليس دفاعًا عن تصرف هؤلاء وإنّما فقط للعلم بالأمر، أنّ سبق وظهرت تصرفات من مجموعات من الطائفة وبعضهم جنود، كانت تشنُ هجومًا وانقلابًا على القوات الإسرائيلية إذا ما مُسّ أحد أبناء الطائفة بضرر، فيسدون أبواب قراهم ويهاجمون قوات الجيش ببنادقهم، إذا ما أرادت تنفيذ أمر هدم بيت غير مرخّص أو غيرها من الشؤون المختلف عليها. ولم أكتب في حينها عن هذا، لأنّ التصرف كان موجهًا ضد الاحتلال وأجهزة تابعة له، فكان تصرف على حقّ، أمّا في هذه القضية فهو على باطل.
أمّا كيف وصل أولئك إلى ما وصلوا إليه من مهاجمة أبناء شعبهم، فهناك الكثير من الكتب والمقالات التي كُتبت عمّا اتبع في حقّ المعروفيين في فلسطين لاستعمار هويّتهم، وواحد من أهمّ المراجع التي أنصح بالعودة إليها لفهم ما دُبّر وحيك لهم كتابٌ كتبه قريب تيران، هو الأستاذ الدكتور قيس ماضي فرّو (1944-2019م) الذي كتب كتابه “دروز في زمن “الغفلة” – من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” الصادر عام 2019 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. للأستاذ قيس الكثير من الإصدارات، وكتَبَ بحثه هذا كجزء من التوعية لفهم ما ألحق بأبناء طائفته، ومات عام 2019 بعد 6 أيام من استلام النسخة الأولى المطبوعة، مطمئنًا أنّه أوصل رسالة طائفته لشعبه الفلسطيني، ولم يدر بخلده أنّ أحد أبناء عائلته سيدفع ثمن إشكاليات الهوية، بعد ثلاث سنوات من رحيله.
استعادة جثامين شهدائنا التي تقع أسيرة في ثلاجات الاحتلال وبعضها محتجز منذ خمس سنوات أو أكثر، وهي تزيد اليوم بحسب معلوماتي على ال 120، أمّا مجموع ما أُسر وحرّر حتّى اليوم فيزيد على ال 300، هو مطلب وطني جمعي، لا تنازل عنه، وقضيةٌ كتبتُ بشكل خاصٍ عنها أكثر من مرّة وأكتب وسيُشار إليها في قادم إصداراتي. وتحتاج العائلات للمساندة في هذه القضية الإنسانية، ودفن فقداها للحدّ من آلامها، لكن لا يكون هذا بالتنازل عن شيمنا وأخلاقنا، التي هي جزء من عدالة قضيتنا الفلسطينية، فما هكذا تورد الإبل.
هذه الحادثة.. هذه الفتنة.. تخرجنا جميعًا مع جرح في القلب والذاكرة، فيما تنشر وسائل إعلام إسرائيلية وأخرى أجنبية في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وغيرها عن الحادثة، وأخال نتنياهو وبن غفير وغانتس ولابيد، يسهرون معًا على طاولة مستديرة يقرؤون، يتأملون ما حصل، ثمّ يضحكون بصوت مجلجل، يقرعون كؤوس نبيذهم ويرفعون نخبهم لصور هرتسل وبن غريون المعلقة على جدران قلوبهم.
نعم! انتصروا علينا هذه المرّة.