بقلم: د . أحمد يوسف
مهما تطاولت السنين، سيبقى ياسر عرفات ذاكرةً لا تغيب، فهو الرمز للوطن والهوية وكوفية الكرامة الفلسطينية، وهو العنوان الأبرز لمنظمة التحرير الفلسطينية وللنضال الوطني الفلسطيني، وهو الحضور الدائم للقضية إذا ما عاشت مشهد الغياب إقليمياً ودولياً. لقد وضع الرئيس أبو عمار (رحمه الله) فلسطين على خريطة الجيوبولتيك العالمي، بالرغم من كل المحاولات الإسرائيلية لطمس القضية وتظهير الحالة الفلسطينية وكأنها إشكالية لا تتجاوز وضعية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”..!! لقد تحرك أبو عمار مبكراً من أجل القضية، ففي أواخر الخمسينيات أي عام 1958، شرعت بعض العناصر الإسلامية – بالتنسيق مع ياسر عرفات – في الدخول على خط تنظيم الإخوان المسلمين بمنطقة الخليج العربي، وذلك بهدف تشكيل حالة نضالية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، ولكن التوجّس والخوف من اعتراض النظام العربي الرسمي أو عدم ترحيبه بهذه الحالة النضالية جعل الإخوان يترددون في التعاطي مع المبادرة، ويسجِّلون تحفظهم عليها. استمرت جهود هذه الطليعة – التي كان يقودها ياسر عرفات – في العمل لتسويق الفكرة عدة سنوات، حتى وجدت لها العدد الكافي من الأنصار، وآلية الدعم والمناصرة فلسطينياً وعربياً، فانطلقت فتح في مطلع عام 1965، ثم كانت قيادتها لمنظمة التحرير في 1968، حيث تمَّ انتخاب أبو عمار رئيساً للجنة التنفيذية، وبدأ في جهوده لحشد الاعتراف العالمي لها.
في الحقيقة، لقد جعل أبو عمار للفلسطينيين عنواناً وهوية، وحالة انتماء تجذرت وفاح شذى عطرها مع دم الشهداء والجرحى ونسمات المعتقلين والأسرى. لقد كان أبو عمار – سواء اتفقنا أو اختلفنا معه – بطلاً قومياً، ونموذجاً في الوطنية والتضحية والفداء.. كانت له أخلاقيات الأب الحاني، الذي يصول ويجول داخل حارات المخيم ويجالس ساكنيه ويمازحهم، ويكفكف بعطفه دموعهم، ويربت على أكتاف الجرحى ويُقبِّل رؤوس الشهداء ويغبر أقدامه في وداعهم، ويسقي بدموع عينيه مدافنهم وآثارهم. كان أبو عمار إنساناً في مشاعره وأحاسيسه، يرعى أبناء الشهداء وأسرهم، ويحفظ لهم العهد.. كان جواداً كريماً، يمنح – دائماً – بسخاء من لا يخشى من ذي العرش إقلالا. أبو عمار – اتفقنا أو اختلفنا معه – يبقى رمزاً وطنياً، أحببنا فيه الوطن، وقدّرنا فيه إخلاصه لقضيته وشعبه، وكنّا – ونحن شباب – نشاهد ابتساماته العريضة التي تغرس فينا الأمل بقرب تحقيق حلم العودة وقيام الدولة الحرة المستقلة.
لله درّك يا أبا عمار.. كم ظلمناك، وكم كنت جبلاً للمحامل، وكم تجاوزت بعزيمتك كلَّ المصاعب والعقبات، حتى أطلقوا عليك لقب “الزعيمُ ذو السبعة أرواح”. لقد نجحت في كسب الدعم العربي والإسلامي لقضية فلسطين ولثورتها، وتوفير الإغاثة لشعبها ولكن بعزة وكرامة، إذ فتحت لك العواصم العربية والغربية أبوابها، فكنت دائم الحضور لتأكيد عروبة فلسطين ومظلوميِّة أهلها.. لقد جعلت المجتمع الدولي يعيد إلى طاولة النقاش كلَّ الملفات التاريخية الخاصة بفلسطين، على أمل الاستدراك وإعادة العدل إلى نصابه.. كنت تتطلع – يا أبا عمار – إلى أمة عربية وإسلامية تنصرك وتنتصر لقضيتك، ولكنَّ الرسميّة العربية -كما الإسلامية- خذلتك، كما خذلتنا جميعاً.
لم تكن الثورة بلا أخطاء، بل كانت الممارسات الخاطئة تلاحقها، حاول أبو عمار إمساك العصا من المنتصف، بهدف إنقاذ الثورة وتطوير قدراتها، ولكن رهاناته على النظام العربي أوقعته في دائرة التناقضات والصراعات.. من هنا، بدأت رحلة التيه والحيرى.. لم تكن المسيرة سهلة على القائد والزعيم، إذ حاول – بفطنته السياسية – أن يكسب الجميع، فقبّل رؤوس الرسميات العربية وعانقها جميعاً كِرمال عيون فلسطين، ولكن الشقاق القائم داخل الصف العربي كان أكبر من أيِّ جهدٍ لأبي عمار، حيث تشظَّت ساحة العرب وتشرذمت أركانها.. فالرسميات العربية كانت – للأسف – مجرد بيادق لها أسيادها التي تحركها وتُحدد مساراتها، مما جعل سفينتك -يا أبا عمار- تلاطم الموج وحدها في بحر عميق من الظلمات. استدرجوك إلى مدريد وأوسلو وكامب ديفيد لينتزعوا منك حقوق شعبك وثوابته الوطنية، ولكنك كنت الأوعى فلم ينالوا من عزيمتك.. لا شك أن بعضهم حاول -عن قصد- خِداعك وتضليلك والتدليس عليك، بغرض الإيقاع بك وتوهين عزيمتك، ولكنك قاومت ولم تنكسر.
بعد غزو الكويت، كثرت عثرات العرب، وانعكست آثارها السلبية على القضية الفلسطينية، إذ شاهدنا كيف انجرَّ العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام في بداية التسعينيات، وبدأ البعض منهم في تطبيع العلاقة مع إسرائيل.. ثم تلاحقت الانهيارات تحت عناوين واتفاقيات كان الفلسطينيون فيها هم الخاسر والضحية. مشوار طويل قطعه أبو عمار من أوسلو إلى كامب ديفيد إلى حصاره الظالم داخل المقاطعة في رام الله. لن ينسى شعبنا صمود (الخِتيار) ومواقفه الصلبة التي كانت تتحدى إشارات شارون له بالتهديد والوعيد، ورده العتيد: يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً.. وأنا أقول بل شهيداً.. شهيداً.. شهيداً. لم تلن له قناة، ولم تنكسر له عزيمة، وظلت ابتسامته أو غضبته تُحرك فينا الأمل وتعزز من صمود شعبنا ورفضه لكافة أشكال الاحتلال. كم كانت قامتك عالية يا أبا عمار، وكم كان حبك لهذا الشعب (شعب الجبارين)، كما كان يحلو لك وصفه، انسجاماً مع النص القرآني: “أن فيها قوماً جبارين”.
لم يقل التاريخ كلمته بعد يا أبا عمار.. وإن كنّا على قناعة بأن صفحاته سوف تُنصفك؛ لأن محبتك تسكن قلوب شعبك في الوطن والشتات.
أبو عمار والشيخ احمد ياسين
لن تنسى الساحة الإسلامية والوطنية مشهد الزعيم (أبو عمار) وهو يطبع قبلة على جبين الشيخ احمد ياسين، كانت الرسالة التي التقطتها العيون أن جوهر العلاقة بين فتح وحماس هي: “إن اختلاف الرأي والموقف لن يفسد الود والمحبة بيننا”. لم تتوقف محاولات (أبو عمار) ومساعيه لكسب حماس إلى جانبه أو وضعها – إن أمكن – تحت عباءته.. ولما تعذَّر ذلك عليه، حافظ أبو عمار على علاقة متوازنة معها، ولولا تجاوزات الأجهزة الأمنية في عام 96 لظلت صفحات العلاقة بين فتح وحماس في منسوبها السياسي المعقول. لم تنقطع حالة التواصل بين الزعيم (أبو عمار) والشيخ احمد ياسين (رحمهما الله)، وظلت شعرة معاوية قائمة على أصولها.. وبين حكمة الرجلين، تعايشت فتح وحماس، فكانت المقاومة الإسلامية تحظى بمساحات واسعة من التشجيع وغضِّ الطرف عن عملياتها، حيث إن أبا عمار كان يفقه لغة الحرب والسياسة، ويحاول بذلك المزاوجة بين المقاومة والمفاوضة، باعتبار أن الأولى هي وسيلة قوية لتحسين شروط التفاوض على طاولة الحوار.
رحمك الله يا أبا عمار.. فستبقى ذكرى استشهادك مهما تطاولت السنين ذاكرةً وعنواناً لجهاد شعبنا ونضاله في وجه الاحتلال، حتى تحقيق الحرية والاستقلال.