كتب: أكرم عطا الله
انتهت الحفلة الخامسة للانتخابات في إسرائيل بتحقُّق مسار الصعود الثابت نحو اليمين، وهو يمين يتعمق أكثر كما كل انتخابات تزداد فيها تلك النكهة التي تجد لها ما يكفي من الأسباب في الجينات الثقافية في اسرائيل، سواء لجهة الأصول الدينية أو الثقافة الإنجابية أو لجهة مجتمع التخويف الأمني الذي كان سلم كل القيادات للصعود نحو الكنيست.
بات واضحاً بعد النتائج أن إسرائيل بهذه الانتخابات تخرج من الفوضى التي دخلتها منذ أربع سنوات حين تم حل الحكومة بخروج ليبرمان في تشرين الأول 2019 لتجري خمسة انتخابات، في كل مرة كانت تزيد الأمر تعقيداً لكن هذه المرة كان لا بد من انتظار فعل الديمغرافيا والأمن لترجيح كفة اليمين أكثر.
ويمكن القول إن إسرائيل تذهب نحو حكومة مستقرة تتجانس فيها الكتل الأربع التي ستشكل الائتلاف بقيادة حزب الليكود ثقافياً وسياسياً وأيدلوجياً وفكرياً.
صحيح أن روح كاهانا ستسيطر على الحكومة والكنيست، لكن تلك الروح كان يمكن البحث عنها داخل حزب الليكود «يبدو سموتريتش يساريا أمام مي غولان الليكودية مثلاً والتي فازت في القائمة على المقعد 32»، ويمكن إيجادها في تراث حركة شاس ويمكن أن نجدها في الأفكار العميقة ليهدوت هتوراه، ولكن لأن بن غفير لا زال هاوياً فإنه الأكثر صارخاً في التعبير عنها، وإذا تتبعنا مسيرة حياته فقد كان يعلن أن مثله الأعلى هو الفاشي كاهانا ثم بدأ يخفي ذلك وكان يعلن إعجابه بباروخ غولدشتاين ثم أخذ يخفف من هذا مثل كثيرين. لكن الحقيقة أن تلك الروح تسري في عروق السياسة اليمينية للأحزاب الائتلافية القادمة.
وفي كل انتخابات كان الفلسطينيون هم من يحسبون قلقاً وخوفاً من قادم السياسة على الضفة الأخرى وما ستحمله أمواجها العاتية التي حطمت أشرعة سفنهم والتي لم تسلم من عبث أصحابها أصلاً. ولكن كان لنتنياهو بالذات دور البطولة في إسدال الستار على أحلامهم وباعترافه المتأخر بعد أكثر من ربع قرن وهو يشير للاتفاق مع لبنان، وإذ به يقدم اعترافاً على طبق الدم بأنه أنهى اتفاق أوسلو وتلك هدية للعالم الأعمى.
لكن هذه المرة كانت حسابات الداخل الإسرائيلي لا تقل ضراوة وخوفاً، حيث تَشارك قسم من الإسرائيليين هواجس كما الفلسطينيين ولمصادفة التاريخ كان لهذا القسم نصيب في تخريب عجلة السلام وفرش البساط الأحمر لهذا اليمين الطاغي كي يمر ويتربع. فقد أشار عدد من الكتاب المرموقين وقادةُ أمن مخضرمون سابقون أبرزهم يوفال ديسكين الذي حذر قبل الانتخابات وهو يرى هذا الصعود لليمين من حرب أهلية بسبب الجماعات المتطرفة.
هذه الجولة من الانتخابات هي الأكثر أهمية في تاريخ إسرائيل على الإطلاق ولا تقارن بانتخابات عام 77 والتي كانت مجرد تغيير في الطبقة السياسية الفوقية الحاكمة كما كثير من الجولات. لكن هذه الانتخابات تنذر بتغيير هائل على مستوى الدولة وبنيتها وطبيعة المؤسسة والقانون والثقافة والعلاقات الداخلية ووجه الديمقراطية، قلق حقيقي يمكن رؤيته على ملامح نخبة الدولة وهي تراقب انزياح شعبها نحو شعبوية دينية وقومية جارفة وانحسار للعقل وإعادة إنتاج مملكة بتخاريفها وسطحيتها لتشكل نقطة تحول في مسار الدولة التي نشأت على أكتاف العلمانية والمؤسسة المهددة باجتياح التيار الفاشي.
منذ سنوات يجري تداول الحكم في اسرائيل لصالح اليمين، ولكن الدولة العميقة والاقتصاد والاعلام والجيش وأركانه وقادة المؤسسة الأمنية والقضاء كانت لا زالت محكومة ببقايا النخبة العلمانية، وإن كان اليمين تسلل إليها لكنه لم يسيطر عليها بعد، في هذه الانتخابات الأمور مختلفة عن كل سابقاتها، وهنا مصدر قلق نخبة الدولة بأن نتائجها ستطال كل تلك المؤسسات وتغير وجه الدولة وتجرها نحو حالة عالمثالثية.
يشعر سموتريتش أنه على مدى اثني عشر عاماً كان نتنياهو في الحكم لكنه لم يحكم بسبب تدخل القضاة في أعمال الحكومة …! هذا بيت قصيد القادم في مجزرة القضاء ومبعث قلق الخائفين على الدولة، حيث يعتبر سموتريتش أن اليمين في الحكم بلا صلاحيات بسبب القوانين وسيطرة رجال ليسوا من اليمين، لذا يجب اقتلاعهم وتغيير منظومة القوانين نحو سيطرة كاملة، وينسحب الأمر على كل المؤسسات التي تشكل حارسة للدولة العلمانية العميقة، وبالتالي شكل الدولة وأزمة الديمقراطية والحريات لدرجة جعلت كاتباً اسرائيلياً قبل الانتخابات بيوم واحد يقول «قد لا أستطيع نشر هذا المقال مستقبلاً».
اسرائيل تتغير من الدولة التي أقيمت بالتراث الأوروبي تنجر نحو تراث المنطقة العربية تصبح مثلها، هل بتأثير الجغرافيا التي لديها قوة جذب لم تسمح بنشوء حالة ديمقراطية في مناخات الشرق؟ أم بسبب التوأمة المبكرة للدين والقومية؟ فهي الدولة الوحيدة التي تتشابه فيها تلك الجزئيتان وكان لا بد لهذه التوأمة أن تعيد المولود إلى الرحم الطبيعي، الأمر بحاجة لقراءة أخرى ولكن النتيجة التي أمامنا أن اسرائيل تصبح جزءاً من الشرق بقيمه وثقافته السياسية وتغادر الغرب بلا رجعة… هذا جديد انتخاباتها، استقرار سياسي لكنه استقرار للوراء يحمل أسس اضطراب ثقافي حضاري.