بقلم : د. مصطفى البرغوثي
تتراوح ردود أفعال المسؤولين الإسرائيليين على ما يجري في الضفة الغربية بين الهلع من حجم المفاجأة التي أصابتهم من تصاعد الأنشطة المقاومة للاحتلال والمبالغة في ادّعاء انتصاراتٍ وهميةٍ يحقّقها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية في قمعه الشعب الفلسطيني. وردّا الفعل، رغم طبيعتهما المتناقضة، يعبّران جوهرياً عن عجز مزمن في فهم الشعب الفلسطيني ودوافعه، بما في ذلك عجز عن توقع أفعاله، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالأجيال الشابة، كما يعبّران عن سوء تقدير وفشل في تقييم نتائج الصراع المحتدم على الأرض. ولا يختلف سلوك الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هنا عن أمثلة كثيرة لأنظمة إستعمارية، فشلت بشكل متكرّر في فهم الشعوب التي تحكمها، وتضطهدها، ومارست غطرسةً غبيةً انتهت بها دوماً إلى انهيار المنظومة الاستعمارية التي أنشأتها.
وتعمق الأيديولوجيا العنصرية للحركة الصهيوينة، والفكر القائم على نفي الآخر، بالإضافة إلى الحاجة لإنكار الجريمة الكبرى التي ارتكبت خلال النكبة عام 1948 ضد الشعب الفلسطيني، العجز عن رؤية الفلسطينيين شعبا له حقوق وخصائص إنسانية مثل الشعوب الأخرى، ولديه، بالتالي، قابلية لتطوير قدرة على مقاومة الظلم الذي يتعرّض له. وتبدو المواقف الفكرية للمنظومة الإسرائيلية محكومةً بخوف مزمن من أن أي اعتراف جزئيٍّ بإنسانية الفلسطينيين سيجرّ معه كارثة الاعتراف بحجم الجريمة التاريخية التي ارتكبتها الحركة الصهيونية، وما يعنيه ذلك من انهيار كامل لبنيان الرواية الإسرائيلية، التي قدّمت للعالم والإسرائيليين أنفسهم لثمانية عقود. ولذلك أيضا تُمعن المؤسسة الإسرائيلية في وصف كل فعل فلسطيني مقاوم مهما كان نبيلا بالإرهاب، وتُبالغ، في الوقت نفسه، في تضخيمه لتؤكّد الإدّعاء بأن إسرائيل هي الضحية، رغم أنها من يمارس الاحتلال ويكرّس نظام الأبارتهايد العنصري.
يتبارى حكّام إسرائيل في إراقة دماء الفلسطينيين وقوداً لحملاتهم الانتخابية، ولا يتورّعون عن استخدام الأسلحة الفتّاكة ضد جمهورٍ مدنيٍّ في الأساس، ويطلقون يد المستعمرين المستوطنين للاعتداء على الفلسطينيين وبيوتهم، وممتلكاتهم، وأشجارهم، بحمايةٍ كاملةٍ من جيش الاحتلال. وفي كل جولة مواجهة، سواء في القدس، وباقي الضفة الغربية، أو قطاع غزّة، أو الداخل الفلسطيني، تستخدم المؤسسة الإسرائيلية أكثر الأسلحة فتكاً، ومنظومة استخباراتية بالغة التطوّر والتعقيد، وتستخدم العقوبات الجماعية، والبطش بالمدنيين والأطفال، ثم تعلن انتصاراتها التكتيكية، بالتدمير، وقتل الشهداء، وتصفية المجموعات، واعتقال الآلاف.
سطحياً، يبدو الأمر كل مرّة، وكأن الاحتلال حقق إنتصارات يبيعها لجمهوره المتطرّف، ويتفاخر بها. لا يمكن اعتبار هذه النتائج انتصارات، فالتفاوت في الخسائر أمر مفهوم في ظل الفارق الهائل بين القدرات العسكرية والبشرية التي يملكها جيش الاحتلال وما لدى المقاومة الفلسطينية. ولكن الاحتلال، يخفي، وربما لا يدرك، أن نجاحاته التكتيكية ليست سوى مظاهر خادعة لفشل استراتيجي كبير، لأن الأمور تُقاس، في نهاية المطاف، بنتائجها.
وأولى هذه النتائج التي تؤكّد فشل المؤسسة الإسرائيلية- الصهيونية، رغم النكبة والتطهير العرقي وعدواني 1956 و1967، أن الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني نجح في البقاء والصمود في وطنه ليصبح عدده اليوم أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية.
وثاني هذه النتائج أن كل عمليات القمع، القتل، والاعتقال، لم تفلح في فرض الخنوع والرضوخ على الوجود البشري الفلسطيني، الذي صار وجوداً مقاوِماً، يستخدم كل أشكال المقاومة من أبسطها إلى أشدها تعقيداً.
وتكمن النتيجة الثالثة في فشل مشروع أوسلو، الذي نُصب فخّا للفلسطينيين، بهدف كسب الوقت للحركة الصهيونية لنشر الاستيطان ولإجبار الفلسطينيين على الرضوخ لاحتلالٍ دائم تحت غطاء حكم ذاتي محكوم بالسيطرة الإسرائيلية. إذ تجاوز الشعب الفلسطيني ذلك المشروع، وعاد إلى التلاحم حول خيار استراتيجية المقاومة والكفاح لتغيير ميزان القوى، بدل الرضوخ لاختلاله لمصلحة إسرائيل.
وكانت النتيجة الرابعة، عودة تلاحم مكوّنات الشعب الفلسطيني وساحاته حول رؤية لمشروع وطني مشترك، في ساحات النضال المشترك، التي رأينا نموذجاً ساطعاً لها في معركة القدس عام 2021.
ولعل النتيجة الإستراتيجية الخامسة ستكون تطور الوعي الجمعي الفلسطيني نحو إدراك أن الهدف الفلسطيني الجامع لم يعد إنهاء الاحتلال فقط، بل ويشمل إسقاط كل منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري في كل فلسطين التاريخية.
بعد 74 عاماً من النكبة، وتدمير 500 قرية وبلدة فلسطينية وتهجير 70% من الشعب الفلسطيني، وبعد 55 عاماً من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، يتكاتف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة، والنضال، وتتعاظم فرص عزل إسرائيل على صعيد الشعوب دولياً. ويبدو واضحاً حدوث تحوّل نوعي في وعي شعب بكامله، ويتعمّق الإدراك بأن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي سيواجه المصير نفسه الذي واجهه الاستعمار في بلدانٍ عديدةٍ أخرى، ويترافق ذلك مع وعي فلسطيني شامل بضرورة الاعتماد على النفس، وتنظيم الذات، وتحدّي كل منظومة الاحتلال والأبارتهايد العنصرية الإسرائيلية.
أما خيار إسرائيل بتدمير ما سمّي “حل الدولتين” وترسيخ واقع “دولة واحدة بنظام أبارتهايد” فلا ديمومة له، ونهاية طريقه، إن استمر، لا يمكن أن تكون سوى زواله، وفرض المساواة التامة في الحقوق القومية والمدنية، وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني المطلق في تقرير مصيره بحرية.
وفي نهاية المطاف، ورغم القمع، ونكران إسرائيلي للحقائق ، ينهض الشعب الفلسطيني مرّة أخرى ماردا مقاوما، مؤكّدا قول الشاعر والمناضل الفلسطيني توفيق زياد: ” نحن لسنا أفضل من أي شعب في العالم، ولكن لا يوجد في هذا العالم شعبٌ أفضل منا”.