بقلم: أ. د. ليث كمال نصراوين
أصدرت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيز، قبل أسابيع تقريرها الأخير حول أوضاع حقوق الإنسان في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وغزة، والذي تضمن تحليلا قانونيا مستحدثا لحق تقرير المصير بعناصره الرئيسية من منظور القانون الدولي. كما أشار التقرير إلى الانتهاكات المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، واستمراره في التنكر لكافة المواثيق والقرارات الدولية ذات الصلة بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.
وقد بدأت المقررة فرانشيسكا تقريرها بإدانة الكيان الصهيوني الذي نجح عِبر عقود من الاحتلال الغاشم في حرمان الأجيال الفلسطينية المتعاقبة من حقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير. فهذا الحق قد جرى وصفه في التقرير الأممي بأنه «حق أساسي ترتكز عليه العديد من الحقوق الأخرى»، وبأنه يتكون من عنصرين متشابكين هما؛ العنصر السياسي الذي ينصرف إلى حق الشعب الفلسطيني في اختيار حكومته بنفسه من خلال عمليات دستورية وسياسية تتيح الممارسة الديمقراطية السليمة في إطار دولة قائمة، وعنصر اقتصادي يتمثل بحق الفلسطينيين في التمتع بثروات بلدهم وموارده الطبيعية.
وفي متن التقرير، أعادت المقررة الأممية التذكير بالقرارات الدولية التي أدانت الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لعام 1967، وذلك ابتداء من القرار رقم (242) وفحواه عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب ووجوب انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها بالقوة، مرورا بالقرار رقم (3236) الذي أكد على ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين كحق غير قابل للتصرف، وانتهاء بقرار مجلس الأمن رقم (2334) لعام 2016 الذي اعتبر أن إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية.
ويمتاز هذا التقرير الدولي بأنه قد قام بتوثيق الانتهاكات الأخيرة التي قام بها الكيان المحتل، وتحديدا واقعة قيام قوات الاحتلال بمهاجمة حاملي نعش الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة. وهو التصرف الذي اعتبرته المقررة الأممية اعتداء صارخا ليس فقط على الحقوق الشخصية والمدنية، وإنما محاولة لمحو الهوية الفلسطينية والرموز الوطنية، في إشارة إلى قيام قوات الاحتلال بتمزيق العلم الفلسطيني في الأماكن العامة والمناسبات الاجتماعية، ومن ضمنها جنازة المرحومة شيرين.
إن هذه الصور الجديدة من الاعتداءات الصهيونية قد جرى وصفها في التقرير الأخير بأنها محاولة لتفكيك القضية الفلسطينية من الخيال الجمعي وتجريد الأرض من هويتها الأصلية، والعمل على فرض نظرية تحريف التاريخ، وذلك بهدف تأكيد مزاعم الاحتلال الكاذبة بأن لهم السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة ومقدساتها الدينية.
ويشير التقرير في الجزء الأبرز منه إلى الحاجة لإحداث نقلة نوعية في التعامل مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وذلك في ضوء المستجدات التي فرضها الاحتلال ذاته. فقد اختفى هذا المفهوم بشكل شبه كامل من الخطاب السياسي والإنساني الدولي، ولم يعد له ذكر في اللقاءات العربية والدولية. كما نجحت إسرائيل من خلال فرض سياسة التطبيع الدبلوماسي مع عدد من الدول العربية في لفت الأنظار عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، فتحول هذا الحق من التزام قانوني يتعين فرضه على المحتل لتغيير الواقع الحالي تحت طائلة المسؤولية القانونية الدولية، إلى مجرد شعارات أيديولوجية نظرية تصطدم بها سياسات الفصل العنصري المطبقة على الأرض.
وتختم المقررة الأممية تقريرها بالإشارة إلى مجموعة من الملاحظات النهائية التي امتازت بالإدانة الصريحة للكيان الصهيوني، والذي جرى وصفه بأنه «نظام استحواذي وعنصري وقمعي يهدف إلى منع إعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير». كما أدان التقرير عملية السلام في الشرق الأوسط ابتداء من اتفاقيات أوسلو وكافة المحاولات التي يجري إحياؤها بين الحين والآخر، واصفا إياها بأنها غير «فعالة لعدم تركيزها على فرض حقوق الإنسان»، وبأنها أغفلت التعامل مع الأسس الاستعمارية الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي.
كما يُقدم التقرير العديد من التوصيات الختامية، أهمها ضرورة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء احتلالها الاستيطاني للأراضي الفلسطينية دون قيد أو شرط، وذلك وفق جدول زمني تضعه الأمم المتحدة لهذه الغاية، على أن تلتزم حكومة الاحتلال بتقديم تعويضات عن أفعالها غير المشروعة.
ويوصي التقرير بضرورة الإسراع في نشر قوات وقائية دولية لتقييد العنف المستخدم بشكل روتيني في الأراضي الفلسطينية وحماية السكان الأصليين، بالإضافة إلى إجراء تحقيق شامل ومستقل في الجرائم التي ارتكبها الكيان المحتل، وأن تتم مساءلة الجناة أمام المحكمة الجنائية الدولية عن جرائم العدوان وجرائم ضد الإنسانية وفق أحكام القانون الدولي.