بقلم: د. أحمد يوسف
حرصت الجزائر والرئيس عبد الحميد تبون أن يكون لهما سهمَ خيرٍ في جهود الوساطة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، مراهنةً على تاريخها العريق في حبَّ فلسطين ودعم أهلها، بالمال والمواقف والكلمة الطيبة، وهو موقف عربي قومي إسلامي أصيل، ليس دافعه الظهور أو المزايدة، إذ إنَّ جهود الشعب الجزائري في دعم القضية الفلسطينية متقدمٌ على كلِّ العرب والمسلمين، وقد برهنت الجزائر على ذلك حين أطلق الرئيس هواري بومدين مقولته الشهيرة “نحن مع فلسطيني ظالمة أو مظلومة”، والتي صارت عقيدة نضالية تتمحور حولها سلوكيات الجزائريين تجاه الفلسطينيين على مستوى المواقف السياسية الرسمية أو الشعبية، حيث فتحت الجزائر أبوابها لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية وكوادرها، وسمحت للكثير من منتسبي المنظمة من الفدائيين الالتحاق بالكليات الحربية الجزائرية لاكتساب التجربة ونيل الرتب العسكرية، كما أنَّ وزارة التربية والتعليم الجزائرية فتحت مدارسها لاستقبال مئات وربما آلاف المدرسين الفلسطينيين للعمل فيها، ولم تبخل جامعاتها في استيعاب مئات الطلاب سنوياً من قطاع غزة والضفة الغربية، وتقديم منح دراسية لهم لتلقي دراساتهم على كلِّ المستويات بما ذلك الماجستير والدكتوراه.
وفي ظل هذه الأجواء الطيبة من العلاقات الوطيدة بين الجزائر وفلسطين، فإن هناك آلاف حالات المصاهرة بين الشعبين.
الجزائريون لا ينسون أن فلسطين قد استقبلت الآلاف منهم خلال هجرتهم في منتصف القرن التاسع عشر، حيث جاءوا بلاد الشام واستوطنوا قرىً في شمال فلسطين، وهذه صفحات من التاريخ الوضيء لا يَنسى أهل الجزائر فضائلها، وقد ردُّوا للفلسطينيين الجميل بأفضل منه.
للآسف، المصالحة الفلسطينية ما تزال تراوح في مكانها منذ خمسة عشر عاماً، ولم تُكلل كلُّ الجهود المبذولة محلياً وعربياً وإسلامياً في تغيير مشهد الانقسام وحالة التشظي، والاتهامات -للأسف- تطال الجميع بما في ذلك كل فصائل العمل الوطني والإسلامي.
في الحقيقة، لا أحد يفهم سرَّ هذه القطيعة والفشل، رغم أنَّ الطرفين -فتح وحماس- جرت بينهما الكثير من اللقاءات، وعادت الكثير من الاتصالات والتفاهمات بينهما، إلا أن الإعلان الرسمي عن عودة العلاقات وإتمام المصالحة ما زال أفقه بعيد المنال.
الجزائر ممثلة بالرئيس تبون (حفظه الله) تتحرك بأمل إنجاز ما فشل فيه الآخرون، واتبعت ربما تكتيكاً طويل الأمد لجمع الطرفين على مستوى الرئاسة واللجان المشتركة، مع الاستئناس بالكلِّ الفلسطيني، مؤملَّة بإحداث اختراق وتوقيع اتفاق يمنحها فرصةَ مباركته وتقديمه للقمة العربية بالجزائر في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل تنجح الجزائر في مهمتها تلك، وهي صاحبة التجربة في الجمع بين الكثير من خصوم السياسة في جغرافيتها الإفريقية؟
نحن الفلسطينيين قلوبنا مع الجزائر، وأملنا أن تنعقد القمة، ويتمخض عن جهودهم ما عجز عنه الآخرون، ونشعر كشعب يعاني من الاحتلال والحصار والعدوان بأننا إلى المصالحة أقرب، فالأوضاع السياسية والأمنية في قطاع غزة والضفة الغربية تتطلب اجتماع الصف ولمِّ الشمل، حيث إن إسرائيل المدعومة أمريكياً تتجه أكثر فأكثر نحو اليمين واليمين المتطرف، وقد ضمت مساحات كبيرة من مدينة القدس، وهي آخذةٌ في التمدد الاستيطاني على أراضٍ شاسعة في الضفة الغربية بما لا يترك فرصة لقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67، كما أنَّ تعدياتها ودخولها على خط المقدسات والتراث الحضاري الإسلامي، يرفع من منسوب المخاوف والتحديات؛ فالمسجد الأقصى اليوم في خطر، حيث تعمل إسرائيل وحكوماتها المتطرفة على إيجاد مكان داخل ساحته يكون بمثابة موطئ قدم تمنحه “القداسة”!! وتفرض بذلك شرعية لها في هذا المكان المقدس لأكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين.
نعم؛ هناك من يطالب حركة حماس أن تُقدِّم في سبيل إنهاء الانقسام كلَّ ما يلزم من تنازلات لإنجاح الجهود الجزائرية في المصالحة، لقطع الطريق أمام أية احتمالاتٍ لفشلٍ يؤدي إلى خلق حالة من اليأس والاحباط، قد يؤدي إلى تراجع الدعم العربي وحتى الإسلامي لقضيتنا وشعبنا، والأمر نفسه ينطبق على إخواننا في حركة فتح، وكذلك الرئيس محمود عباس؛ باعتبار أنه -رسمياً- قبطان السفينة، وأنه المسؤول الأول عن سلامتها وضمان وصولها إلى شاطئ الأمان.
حماس من جهتها تقول إنها وافقت على المقترح الجزائري، ولم تجرِ أي تغيير أو تعديل على ما جاء فيه، وأن الكرة الآن هي في ملعب الرئيس وحركة فتح.
ونحن الشعب الفلسطيني، ليس أمامنا إلا مباركة الجهود الجزائرية، وانتظار ما يمكن أن تأتي به رياح المصالحة إن تمت، بين الفصيلين الأكثر حضوراً وتأثيراً في مشهد الحكم والسياسة.
ونأمل أن يكون نداء الجميع بعد هذه اللقاءات “وعقدنا العزم أن تحيا فلسطين والقدس والأقصى”.
أخيراً.. إنَّ ما يميز الجزائر عن غيرها من الدول العربية، أنها مرَّت بظروف مشابهة عندما كانت البلاد تحت الاحتلال الفرنسي، وساحة الصراع فيها كانت مفتوحة بين العديد من القوى الوطنية والإسلامية المتنافسة على قيادة المشهد النضالي، وقد نجحت بحكمة بعض قياداتها -آنذاك- أن تحسم مشهد الخصومة والخلافات المستشرية بين فصائل المقاومة، خلال حوارات (مؤتمر الصومام) الذي انعقد في عام 1956، ونجحت الجزائر بعد اجتماع الشمل والتوافق بين الجميع في خوض معاركها السياسية والعسكرية تحت راية جبهة التحرير الجزائرية.
وعليه، وفي ظل تلك التوافقات الوطنية والرؤية السياسية المشتركة، تمكنت الجزائر من دحر المستعمر الفرنسي، وتحرير أرضها، ونيل استقلالها عام 1962، وتحقيق ما نادت به الجماهير: “وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر”.
نأمل أن تكون تلك التجربة في العمل النضالي درساً لنا نقتفي أثره، ونحقق لشعبنا مبتغاه في الحرية والكرامة والاستقلال.