كتب: د. مصطفى البرغوثي
منذ نشأت الحركة الصهيونية، وبدأت غزوها فلسطين، وهي تمارس ما يمكن تسميته “الاحتيال على البديهيات والحقائق”. بدأ الاحتيال الأول بالادعاء أن فلسطين “وطن بلا شعب لشعب بلا وطن”.
الاحتيال الثاني كان ادعاء أن إسرائيل قبلت مشروع التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، في حين رفضه الفلسطينيون، مع أن المؤرخ الإسرائيلي المعروف والباحث في جامعة أكسفورد آفي شلايم أثبت زيف هذا الأمر، وعدم وجود أي وثيقة تثبت قبول إسرائيل والحركة الصهيونية مشروع التقسيم.
والاحتيال الثالث، كان إيهام العالم بقبول إسرائيل لقرار الجمعية العمومية رقم 194 الذي نص على عودة اللاجئين الى ديارهم، شرطا لاعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل.
الاحتيال الرابع ادعاء إسرائيل أنها انتصرت بجيشها الوحيد على خمسة جيوش عربية عام 1948، في إيحاء بأن انتصارها كان تكراراً لأسطورة داود الصغير الذي انتصر على جوليات العملاق، مع أن الوقائع تثبت أن مجموع الجيوش التي حاربت إسرائيل مع المقاتلين الفلسطينيين لم يتجاوز 11 الفاً في بداية الحرب مقابل 60 ألف جندي إسرائيلي، وفي ذروة المعارك لم يتجاوز عدد المقاتلين العرب 22 ألفاً مقابل 121 ألف جندي إسرائيلي.
الاحتيال الخامس، ادعاء إسرائيل أنها من تعرض للعدوان عام 1967 لتبرير هجومها على ثلاث دول عربية واحتلال أراضيها بما في ذلك ما تبقى من فلسطين.
غير أن الاحتيال الأكبر على العالم بأسره، كان ادعاء أن إسرائيل هي الضحية المعتدى عليها، رغم أنها من بدأ ما لا يقل عن 15 حرباً على الفلسطينيين وجيرانهم من الدول العربية، وفي السياق ذاته الادعاء بأنها ضحية، وهي تمارس الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ونظام الأبرتهايد العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية.
ترافقت عمليات الاحتيال التاريخية، مع احتيالات استراتيجية كثيرة في إدارة القمع ضد الفلسطينيين، وأبرزها كان اتفاق أوسلو، الذي قُدم للعالم كاتفاق سلام مع أنه لم يكن سوى وسيلة لامتصاص نتائج الانتفاضة الفلسطينية، وغطاء، تنكرت له الحكومات الإسرائيلية، لتكريس استمرار الاحتلال، ولكسب الوقت بهدف استكمال ضم وتهويد الضفة الغربية.
ويقودنا ذلك كله إلى ما تمارسه إسرائيل اليوم من احتيال بادعاء وجود سلطة فلسطينية ذات سيادة في الضفة الغربية، ويجب أن تتحمل مسؤولية الأمن فيها، والسيطرة على المقاومة ضد الاحتلال، واعتقال المقاومين، ويكرر داعمو إسرائيل هذه المقولات، مصورين الوضع المتفجر على أنه خلاف أو نزاع بين طرفين متكافئين في المسؤولية والقدرات. وخطورة هذا النهج أنه يلقي بالمسؤولية عن ما يقوم به جيش الاحتلال من قتل للفلسطينيين، وتفجير للوضع، على عاتق الفلسطينيين أنفسهم.
يكرر هذا النهج الممارسة الإسرائيلية خلال الانتفاضة الثانية عندما روجت إسرائيل بمساعدة إدارة بوش ادعاء أن ما يجري في الأراضي المحتلة حرب بين جيشين، وليس صداماً بين قوة الاحتلال والقمع الإسرائيلي المدجج بالسلاح، وبين مقاومي الاحتلال.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي أعاد احتلال الضفة الغربية بكاملها عام 2002، ودمر بنيتها التحتية، بما في ذلك بنية السلطة وأجهزتها الأمنية، ومؤسساتها الإعلامية والثقافية، ثم حاول الأمريكيون إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، بعد إحالة آلاف من ضباطها على التقاعد، فإن الاحتلال الذي فشل في تصفية المقاومة الفلسطينية، يعود اليوم إلى معزوفة مقولاته الممجوجة منذ عشرين عاماً، بالادعاء أن من واجب السلطة السيطرة على المقاومين ضد الاحتلال، واعتقالهم، ثم يفسر فشله هو (أي الاحتلال) في وقف المقاومة بأنه يعود إلى ضعف السلطة، وأجهزتها.
ولفت نظري، خلال مقابلة مع قناة الجزيرة الأسبوع الماضي، شارك فيها مسؤول سابق في الخارجية الأمريكية، أنه كرر رواية الاحتلال الاسرائيلية التي سبق واستخدمت خلال الانتفاضة الثانية، وكأن ذلك يثبت مقولة “أن التاريخ يكرر نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة ثانية بشكل مهزلة”، وتجاهل الاحتلال الإسرائيلي بل حاول إخفاء عدة حقائق ومنها:
أولاً – أن السلطة الفلسطينية مسؤولة أمنياً حسب تفاق أوسلو عن 18% فقط من أراضي الضفة الغربية، تمثل المدن الفلسطينية معظمها وقد فقدت السيطرة الحقيقية عليها منذ اجتاحها شارون بدباباته عام 2002.
ثانياً – أن هذه المناطق (18%) مقطعة الأوصال ولا تواصل بينها من دون المرور بالحواجز العسكرية الإسرائيلية، ومن دون إذن إسرائيلي.
ثالثاً – أن الجيش الإسرائيلي يجتاح بقواته يومياً هذه المناطق التي يفترض أنها تحت سيطرة السلطة أمنياً، بما في ذلك مدن جنين ونابلس والخليل وبيت لحم وأريحا وطولكرم، ورام الله مقر السلطة الفلسطينية.
رابعاً – أن 82% من مساحة الضفة الغربية حسب اتفاق أوسلو الانتقالي، والذي أصبح دائما، تخضع على مدار الساعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، ولا تستطيع أجهزة السلطة الدخول اليها، ولا تملك أي سيطرة عليها.
خامساً- أن إسرائيل تتعمد إهانة السلطة الفلسطينية مع كل اجتياح، كما تتعمد إضعافها بقرصنة جزء كبير من أموال الضرائب التي تجمع من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لصالح السلطة.
سادساً- أن جيش الاحتلال الذي يستخدم الدبابات والمدرعات وأحدث الطائرات الحربية، والمسيَرات، وأكثر أجهزة التجسس الإلكترونية تطوراً، فشل في قمع المقاومة ويريد من السلطة الفلسطينية أن تصطدم بها و أن تسيطر عليها ، بأسلحتها الخفيفة.
ليس الإسرائيليون أغبياء ليعتقدوا أن ما فشل جيشهم في تحقيقه بسبب بسالة المقاومين الفلسطينيين، وعمق الاحساس الشعبي بظلم الاحتلال وقمعه ، يمكن لأجهزة السلطة أن تحققه مع كل نقاط ضعفها التي ذكرناها، لكن هدفه الحقيقي هو إثارة الخلافات والنعرات والصراعات بين الفلسطينيين، على أمل أن يجرهم ذلك إلى اقتتال داخلي يضعفهم جميعاً، ويسهل لجيش الاحتلال السيطرة عليهم.
والمدخل الذي يواصل الاحتلال الاستثمار فيه، هو ما سمي “بالتنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال” وهو مفهوم يخلط الاسرائيليون عمداً بينه وبين التنسيق المدني لاحتياجات السكان المحكومين بالاحتلال.
عقيدة التنسيق الأمني كانت خاطئة من أساسها عندما وُقع اتفاق أوسلو، لأنها افترضت “أن على من هم تحت الاحتلال توفير الأمن للجيش والدولة التي تحتلهم، دون أن يكونوا قادرين على حماية شعبهم وأنفسهم من الاحتلال نفسه”.
ولإفشال خديعة واحتيال الاحتلال، لا بد من تنفيذ قرارات المجلس المركزي و إلغاء العقيدة المذكورة والتنسيق الأمني، والعمل على إنهاء الانقسام وبناء وحدة وطنية بين مكونات الشعب الفلسطيني على أساس برنامج كفاحي لمقاومة الاحتلال، بالاستناد إلى الوعي الجمعي، بأن الاحتلال لا يستهدف المقاومين الفلسطينيين فقط، بل كل من هو فلسطيني أيا كان مكانه و مهما كان عمله.